إصلاح العقل الجمعي كمتطلب مسبق..!

أصبح اختيار التحرك نحو تحول إصلاحي جريء وجوهري ضرورة وجودية لكل الدول والمجتمعات في مناخ عالمي مشحون بالأزمات. وفي كل مكان تقريباً، تُستنطَق العناصر والتكوينات التي بدَت ذات مرة مستقرة ومستدامة، والتي تبين أنها استقرت على تراكمات قلِقة من السخط والمظالم التي شرعت في التعبير عن نفسها الآن، بطرق كارثية في كثير من الأحيان.اضافة اعلان
مثل كل شيء يُترَك من دون تحريك أو تجديد، سوف تصاب المجتمعات والكيانات والبنى بالصدأ والتآكل بحيث لا ينفع الترقيع والتجميل، وتحتاج القطع الحيوية في الآلات الوطنية إلى تغيير وتحديث جوهريين. وفي الحقيقة، لن يكفي تغيير بعض الوجوه والأنماط والقوانين، وإنما يتطلب تحديثاً للعقليات والتوجهات بحيث تكون قادرة على استيعاب التغيير والتفاعل معه والمشاركة في إحداثه، ولو تطلب ذلك تقديم تنازلات فردية لصالح المشروع الجماعي.
ربما لن تنجح أفضل الأفكار في العالم إذا لم تكن تنطوي على آليات تهيئة الجمهور لاستقبالها وإقناعهم بالتكيف معها من موقع القناعة والإيمان بالجدوى. ولا يمكن الحديث أبداً عن مجتمع –بلد- ديمقراطي إذا كانت عقليات الناس وقناعاتهم –وتصرفاتهم- غير ديمقراطية. ولا عن مجتمع علمي إذا كان ناسه بعقليات مناهضة للفكر العلمي. أو عن بلد ناهضٍ وتقدمي إذا كان عقله الجمعي رجعياً وفاقد الهمة. وسوف يكون النضال الأساسي من أجل تطبيق أي رؤى مستنيرة هو تليين المنظومة العقلية التي ربما تكون قد تحجرت بفعل عقود من الإهمال -وربما السياسات التي تقصدت تسكين الفكر وتأبيد البنى السكونية.
لن ينجح إصلاح سياسي ذو معنى إذا بقي الدافع الغالب لاختيار الفرد ممثليه في البرلمان هو علاقة القرابة والصداقة والجيرة. لقد أتاح هذا النمط الناجم عن عقلية عصبوية غير نقدية دائماً إنتاج برلمانات أعضاؤها في غنى عن تسويق أنفسهم باقتراح برامج ورؤى تطوّر الناس والبلد وتحسين أحوالهم. ولا يلزم أن يعرض المرشح أي فهم سياسي مستنير وعارف بالوجهات من أي نوع. بل إن الحافز لعرض هذه المؤهلات والاجتهاد في تحصيلها غير موجود لأن ما يلزم هو عدد كبير من الناس الذين ينتخبون المرشح على علاته كواجب عائلي أو اجتماعي.
لن تتكون أحزاب قادرة على الأداء الذي تتطلبه التعددية من دون التجمع حول أفكار أساسية واضحة ورؤى قابلة للتطبيق. لا ينفع أن يشكل كل مائة شخص حزباً مغموراً ليست له جاذبية ولا شعبية ولا أغلبية تمكنه من تمرير برنامج، أو ادعاء أنه تمثيلي. ولن يستطيع أي حزب أن يجذب ناخبين إذا لم تكن الآليات العامة تسمح له بطرح برنامج جريء يلبي التطلعات ولا يخاف من تغيير ما تُسمى أساسيات، بلا قيود ولا تدخلات. وسوف يتطلب ذلك تنازلات كبيرة من الجهات التي احتكرت طويلاً صناعة القرار، وقبولاً مخلصاً بالتضحية التي يتطلبها احترام رغبة الأغلبية مهما كانت مختلفة.
لا فرصة لأي إصلاح إذا استمرت عقلية الاعتقاد بالأهمية الفردية (درجة المواطنة) والنفوذ بموالاة كيانات أقل من الدولة، بالطريقة التي يلخصها مواطنونا عادة في العبارة الشهيرة: «بتعرف مع مين بتحكي»؟ سوف يقاوم كثيرون بشدة التنازل عن سهولة تسيير المعاملات بمكالمة مع أحد المعارف أو الأقارب في مؤسسات الدولة. ولن ينفع شيء إذا لم يكن الإجراء الأول الذي يتخذه مواطن اختلف مع مواطنه هو الاتصال بـ911، واتصل بدلاً من ذلك بالأقارب للتحشيد بمتنفذ لكسب الجولة بنوعية الصلات.
لا فرصة لإصلاح يقصد العدالة، إذا كانت هناك «قوانين» موازية، تتعارض في كثير من الأحيان مع «حكم القانون» وتأخذ الأسبقية عليه. ليس صحيحاً أن الدول لا تؤمِّن سلمها المجتمعي إلا بتفويض مواطنين «نافذين» بحل الخلافات وفرض أحكام ربما يخالطها الهوى. وسوف يكون هذا مبرَّراً فقط إذا لم تكن الدولة غير راغبة –أو غير قادرة على فرض حكم القانون بلا خواطر ومجاملات واسترضاءات.
لا فرصة للإصلاح السياسي –والاقتصادي والاجتماعي، وكلها متعالقة عضوياً- من دون تأسيس عقل اجتماعي نقدي، قادر على الاستنطاق والانفتاح على الأفكار كلها ومنحها فرصة المحاكمة المنطقية. ويجب أن يكون الناس متمتعين بحرية الرأي والانتقاد والمساءلة. ولا نفع في عقل جمعي يقبل بغير الجدارة معياراً للوظائف والمناصب. ربما يفترض التفكير في هذه الأساسيات لإنجاح أي إصلاح واعد.