إصلاح العولمة

يتعامل صندوق النقد الدولي مع اقتصادات الدول انطلاقا من فهمه للاقتصاد الأميركي وهذا يجعله يقدم توصيات مضللة حتى على مستوى الاقتصاد الأميركي نفسه

اضافة اعلان

لم تصل أسئلة الأزمة العالمية إلى العولمة نفسها وعيوبها وما يمكن إصلاحه فيها لتؤدي دورا في الإصلاح الاقتصادي والعام، واستمرار هذه الأدوات والمؤسسات في العمل بالطريقة نفسها التي أنتجت الأزمة أو شاركت في إنتاجها على الأقل يعبر عن إصرار على الخطأ والفساد، ويعتقد خبراء اقتصاديون مهمون مثل جوزيف ستغليتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد بأن المكونات الاقتصادية للعولمة وحركة السلع والخدمات وحركة رؤوس الأموال وسياسات صندوق النقد الدولي تعمل لصالح الأغنياء والمتنفذين والفساد، وأن الضحية الأساسية لهذه السياسات والديناميات هم فقراء العالم الثالث.

ويستشهد بالنجاح الصيني لأن الصين أفلتت من هذه السياسات ودخلت في نظام السوق بحذر وتدرج وبمشاركة بين الحكومة والقطاع الخاص، في حين أدت سياسات الخصخصة بلا تحفظ إلى انهيارات اقتصادية واجتماعية في روسيا وشرق أوروبا ودول كثيرة في العالم.

ويقترح ستغليتز مجموعة من الإصلاحات الرئيسة المطلوبة، مثل الاعتراف بأخطار تحرير سوق رأس المال، وإصلاح عمليات الإفساد والتجميد، واعتماد أقل على عمليات الإنقاذ المالي، وتحسين تنظيم وضبط العمل المصرفي، من حيث التصميم والتنفيذ، سواء في البلدان المتقدمة أو النامية، تحسين إدارة المخاطر التي تنشأ من جراء التقلب السريع لأسعار الصرف، وتحسين شبكات الأمان، وتحسين رد الفعل في مواجهة الأزمات. ويقول إن العالم يحتاج إذا أردنا تحقيق عولمة ذات بعد إنساني أن يتحمل نصيبه من إصلاح المؤسسات الدولية التي توجه العولمة، وتجعلها في خدمة البلايين من البشر الذين فشلت العولمة بالنسبة لهم.

ومن المهم لفهم العولمة النظر إلى المؤسسات الثلاث الرئيسة التي تحكمها، وهي صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ويلي هذه المؤسسات ويدور حولها جيش من المؤسسات الأخرى التي تلعب دورا في النظام الاقتصادي الدولي، من البنوك الإقليمية، وعدد كبير من منظمات الأمم المتحدة، مثل برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة، ولكن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كانا في قلب القضايا الاقتصادية الرئيسة طيلة العقدين الأخيرين، فقد وقعت على عاتق صندوق النقد الدولي المهمة الأكثر صعوبة ألا وهي تأمين الاستقرار الاقتصادي العالمي.

تأسس الصندوق على إيمان بأن هناك حاجة "لعمل جماعي" على المستوى العالمي من أجل الاستقرار الاقتصادي، ولكن بمرور السنوات تغير الصندوق بشكل ملحوظ عما كان في بدايته، فقد تأسس على عقيدة أن الأسواق تعمل غالبا بشكل سيئ، في حين أنه الآن يدافع عن سيادة السوق بحماسة أيديولوجية، وهو الآن لا يقدم أموالا إلا إذا بدأت الدول في تطبيق سياسات مثل خفض العجز في الموازنة أو زيادة الضرائب أو زيادة معدل الفائدة، ما يؤدي إلى انكماش الاقتصاد.

ويبدو واضحا بعد نصف قرن من تأسيس صندوق النقد الدولي أنه فشل في مهمته، فالأزمات حول العالم أصبحت أكثر عمقا وتكرارا، ولم يستطع أن يحول البلدان الشيوعية إلى اقتصاد السوق، فقد تم فرض تحرير السوق رغم أنه لا يوجد أي دليل يثبت أن ذلك يحفز النمو الاقتصادي، فتطبيق نظريات لم يكن ليمثل مشكلة خطيرة.

وتنشأ المشكلات أيضا من حقيقة "من الذي يتكلم"، ففي صندوق النقد الدولي يتولى ذلك وزراء المالية والتجارة ومحافظو البنوك المركزية، يرتبط كل واحد من هؤلاء ارتباطا وثيقا بمجموعة من أصحاب المصالح الخاصة، داخل بلادهم، وبالتالي يعكس الوزراء اهتمامات رجال الأعمال الذين يريدون رؤية أسواق جديدة تفتح أمام منتجاتهم.

وصندوق النقد الدولي يهتم بالتضخم، والبلدان التي تنفق حكوماتها أكثر مما تحصل من ضرائب ومساعدة خارجية ستواجه غالبا التضخم، خاصة إذا مولت عجزها بطبع النقود، لأن معدلات التضخم شديدة الارتفاع تؤدي غالبا إلى انخفاض النمو، وانخفاض النمو يؤدي إلى بطالة عالية، وإذا لم يحقق بلد ما الحد الأدنى من المعايير والسياسات الاقتصادية فإن الصندوق يعلق مساعدته، والمشكلة عندما يحدث ذلك يحذو المانحون حذوه، وعادة فإن الحكومات التي تفشل في إدارة اقتصادها الكلي، لا تحسن إدارة العون الخارجي.

ويتعامل الصندوق مع اقتصادات الدول انطلاقا من فهمه للاقتصاد الأميركي، وهذا يجعله يقدم توصيات مضللة، حتى على مستوى الاقتصاد الأميركي نفسه.

هذا المنهج القائم "مقاس واحد يناسب الجميع" أدى إلى مشكلات كثيرة بسبب تطبيقه من دون سماع وجهات النظر المختلفة، ولأنه كان أقرب إلى الإملاءات المفروضة، ثم اعترف الصندوق بخطأ سياساته التي طبقها، مثل فرض تدابير تقشف متطرفة في شرق آسيا عام 1997، وكانت الحكومات تدرك خطورة هذه السياسة، ولكنها لم تقدر على معارضتها.

وبالطبع كان ثمة تطبيقات مفيدة للصندوق، ولكنها سياسات لم تضمن حدوث تغيرات مفيدة وعميقة، ولا حسن استخدام وإدارة الأموال، وفي كثير من الأحيان كان الصندوق ينسحب تاركا البلد في حالة فقر أكثر ومديونية أكبر، ومزيد من الثراء للصفوة الحاكمة.

[email protected]