"إضراب يا مدارس"!

أريدُ العودَةَ إلى المدرَسَة صباحَ اليَوْمِ الأحَد تحديداً. سأرتدي الزيَّ الرسميَّ كاملاً، وأجازفُ بإخفاء ملابس العيد الصغير تحت اللباس "الخاكيِّ" الطاردِ للفتياتِ الطامحاتِ لحبٍّ ناضِجٍ، وسأقصُّ الأظافرَ التي ربَّيْتُها لحالات الدفاع عن النفس في المشاجَرَة المتوقعَةِ مع الصفِّ العاشر (ب)، وأعيدُ تصفيفَ شعري ليبدو قصيراً فلا يُثيرُ غيظ أستاذ علوم الأرض المتصحِّر الرأس!اضافة اعلان
سأصِلُ عند السابِعَة والنصف تماماً: أحْمِلُ كتبَ الحصَصِ السبْع كاملةً، أتصدَّرُ الطابورَ، فلا شيءَ أودُّ إخفاءَهُ عن المدير الصارمِ، سأخشَعُ بصدقٍ أثناءَ قراءة الفاتحة من المسجِّل العتيق، ولن أتحايلَ بأداء التمارين الرياضيَّةِ الخفيفة، أو أُبدي تذمُّراً أثناءَ إلقاء الطالب النجيب، في الإذاعة المدرسية المشروخَةِ، لحكَمٍ باليَةٍ عن مآثر الصدق والإيثار، وسأدَّخِرُ الضحكَ لـ"النكتة" المؤدَّبَة التي تسعى المدرسة لإحلالها مكان "نكاتنا" الخالية من البراءة.. سأبدو طالب علم في يوم "إضراب المعلمين"!
أدخلُ إلى الصفِّ المُعْتِمِ فثمَّةَ غيمَةٌ قاتمَةٌ تغطِّي الشمسَ..؛ فنصفُ الإنارة خسرناها في معركةٍ غير متكافئةٍ مع الصفِّ الثالث الإعداديِّ المكوَّن من طلبَةٍ لا يحلقونَ ذقونهم. بالتأكيد سأشعرُ وزملائي، من كلِّ الشِلَل والأعمار والميول الرياضيَّةِ المتباعدة، بالبَرْد الذي له "لسْعَةٌ" تفوقُ أذى "قنوة" المعلم الكئيبِ، المزيَّنة باللاصق الملوَّنِ، المكتوب عليها بظرافة غليظة:"افتح ايدك ولا توجّع قلبي"!
سأحتَمِلُ كلَّ ذلك وأكثر؛ فلا يهمُّ لو تمَّ نَعْتي بأكثر الحيواناتِ غَباءً، ولو تنبَّأ لي أستاذ الرياضة الهزيل البنيَةِ بأنَّ مستقبلي المهنيّ لنْ يزيدَ على بائع "ذرة مسلوقة" عندَ جمهورِ الدرجَةِ الثالثَةِ في دوري الدرجة الثانية، وسأبتسمُ بلؤم على أستاذ الفنِّ الذي قال إنَّ زوجتي ستكونُ بدينَةً، ولن تتقنَ من فنونِ الحبِّ سوى الرغبة الدائمة بمذاق الطعام المعدِّ باللحم البلديِّ، وزوائده الدهنية!
اليومَ فقط أريدُ الجلوسَ على مقعَدي المكسورِ آخر الصفِّ المكتظِّ بخمسين طالباً مرغمين على تركِ ناصية الشارع. وهذا الصباحُ تحديداً أريدُ النومَ بعد أنْ أطردَ بتهذيب ناقص زميليَّ في المقعد، وأحلم بشكل الحياة بعد أنْ ينتهي عشرة شعراء جاهليين من كتابة معلقات لن تعلقَ في رأسي الصغير، ويتمّ السيِّد "فيثاغورس" فلسفته الرياضية الفائضة عن حاجتي للعيش، ويضع الرجل الفاضل "اسحق نيوتن" البنودَ الأساسية في "قانون الجاذبية"..؛ أول قانون سأكرهه وأتهرَّبُ من تطبيقه، تماماً كما سأفعلُ لاحقاً مع "قانون الضريبة الأردنيّ للعام 2003"!!
سأفعلُ في الفصل الخالي من المعلمِ ما أشاء..؛ أكتبُ شعراً ممنوعاً لـ "محمود درويش" على ورقة تطلبُ الإجابَةَ الصحيحَةَ، وأروي بلا خوفٍ، للطلبة المحتقنين، المشاهِدَ البالغة الإثارة من رواية "الربيع والخريف" للروائيِّ الهَرِمِ "حنا مينا"، وأتباهى أمام الطلبة الملتزمين بـ "بَصْم" دروس المطالعة الرتيبة، بحفظ ما لم يُغنِّه "خالد الشيخ" من قصيدَةِ "عيناكِ"!
أريدُ اليومَ العودَةَ إلى المدرسة..وهي تحت حكم عريف الصفِّ المتميِّز بالشَّغَب؛ ولا همَّ لي إلاَّ أنْ أقنِعَ زميلي أنَّ هدفَ "الوحدات" في مرمى "الفيصلي" لم يكُنْ تسللاً. أودُّ اليومَ لو أتصالح مع "المتنَبِّي"، وأخبرْهُ أنَّني كنتُ سأحبُّه لو قرأتهُ حاضراً وليسَ غيباً، ثمَّ أعترفُ من سور المدرسة لطالبة التدبير المنزليِّ، أنني كنتُ سأتزوجها لولا بغضي لرائحة اللحم البلديِّ، واحتمال تحولها إلى "أم العبد" ببدانة شديدة!
المدارس في حالة إضراب. المعملونَ الذين كانوا طلاباً ملتزمين بحفظ القصائد والنظريات وآيات القرآن الكريم، لهم مطالب وظيفية تقولُ الحكومة إنَّها فعَلتْها، وستفعَلُها على مراحل..؛ وثمة قلق "على سير العملية التربوية"..؛ لا تقلقوا عليَّ يا أساتذة:"أصلا كلُّ ما تعَلَّمْتُه كانَ بالضرْبِ والإضراب"!!

[email protected]