إعادة بناء في العلاقات الدولية

مالك العثامنة كثير من المعلومات والمعطيات التي تتوارد يوميا وبتسارع مذهل، ومثيرة للدهشة وتوحي بوضوح إلى تغيرات هائلة في الإقليم، والعالم كله، ومثلما كنا نقرأ أن الآلة البخارية غيرت وجه العالم وعلاقاته وأنماطه الاقتصادية، فإننا ومنذ مطلع الألفية دخلنا تغييرا جديدا ونوعيا ومختلفا بدأنا نتلمسه الآن على مستوى العلاقات الدولية التي تحركها أنماط اقتصادية وإنتاجية جديدة. يبدو أن التغيير العالمي الجذري والحقيقي بدأ منذ فترة قصيرة كحالة ملموسة، فالتغييرات، على ما يبدو، هي مثل الزحزحة القارية، لا يمكن تلمس حركتها لكنها ضخمة، ضخمة جداً بحيث إنها استغرقت 30 عاماً من العنف والفوضى والتحولات والتكتلات والتحالفات لتنتهي إلى ما نحن عليه اليوم. لقد خرجت شرق أوروبا من خلف الستار الحديدي هشَّة، تحاول الانكفاء قدر الإمكان على قومياتها المحلية وهوياتها الوطنية لتخلق درع دفاع يحميها وتنطلق منه، ووجدت نفسها أمام خيار وحيد يتمثل بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ضمن متطلبات وشروط اقتصادية تعجيزية بالنسبة لاقتصادياتها المتعبة. فكان ما كان من انضمام وضم لاتحاد تسيطر عليه ألمانيا وفرنسا بالدرجة الأولى، وهذا تطلّب أيضاً الخضوع لشروط رأس المال الذي تمثله الشركات الكبرى، فمثلاً وليس حصراً أغلقت المجر وتشيك معاملهما الكبيرة والثقيلة لصناعة القاطرات والحافلات الكبيرة لصالح شركات مثل فولفو ومرسيدس؛ وخضعت الحقول الخصبة الزراعية في وسط وشرق أوروبا لقوانين سوق الاتحاد، التي فضلت إنتاج الدول الأقوى فيها. العامل والفلاح، اللذان كانا لا يجدان قوت يومهما خلف الستار الحديدي، وجدا نفسيهما عاريين تماماً أيضاً أمام الستار الممزق، والفقر هو ذاته لكن بلغة مختلفة ومنمقة، لكن حرب أوكرانيا كشفت الشرخ الواسع خصوصا في صراع القيم بين المحافظين والنيوليبراليين في القارة البيضاء. وقريبا سينتقل الثقل والقوة من غرب أوروبا باتجاه الوسط والشرق. دول الرفاه الاجتماعي مثل الدول الاسكندنافية والبينولوكس، وصلتها الهزات الارتدادية للزلزال العالمي العظيم، فانتهت بعد انهيار عام 2008 الاقتصادي إلى مأزق عبرته بمشقة وأثمان عالية، لكن حرب أوكرانيا وكارثة كوفيد قبلها أثبت كل منهما أن الاستمرار بنفس الآليات اليوم صار صعباً ومستحيلاً. حتى مفهوم “النقابات” التقليدي الذي تجلى في أوروبا بعد إرهاصات طويلة وشكلت أساس القيم لمفهوم الدولة والمواطنة لا حقوق العمال فقط، تغير بشكل جذري، فتلك المؤسسات التي كانت تقود المهن وأصحابها لتنظيم شؤونهم، اصطدمت بثورة تكنولوجيا المعلومات، وقد تغيرت وسائل الإنتاج لتحل محلها ثورة رقمية لم تعد فيها ملكية لوسيلة الإنتاج، وهذا ما جعلها عاجزة تترقب بصدمة ما يحدث في شوارع باريس، حين ارتدى «أطفال التسعينيات» سترات صفراء موجودة في الصندوق الخلفي لكل سيارة أو دراجة هوائية، وخرجوا إلى الشارع ضمن تواصل رقمي قفز فوق النقابات والاتحادات والمنظمات جميعها! كان إنزالاً باراشوتياً من سماء الثورة الرقمية. هذا عالم بلا أسرار تقريبا، الكل فيه يمكن أن يعرف أو يصل إلى المعلومة أو تصله بدون أن يطلبها أحيانا! وهناك فوضى معلومات خلقت حروبا جديدة في التضليل والتزييف كذلك. النفط، كان مفتاح “وقفل” علاقات الشرق الأوسط، وفي عصر ثورة المعلومات والتقنية الرقمية، تراجع النفط كثيرا وصار الغاز “الذي يتسرب بخفة أكثر” مفتاح العلاقات الجديدة التي ستدهش من لا يدركون حجم التغيير بعد، وهو تغيير بحجم زحزحة قارية كما قلنا، لن نشعر بالزحزحة لكن سنرى تداعياتها. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان