إعلام الفساد

 أصبح ملف الفساد القضية رقم واحد في أولويات الاجندة السياسية والاجتماعية من خلال ما توفره وسائل الإعلام من تدفق هائل للمعلومات والآراء حوله، وسط عاصفة الحراك الاحتجاجي غير المسبوق بأبعاده المحلية والاقليمية، المسألة التي لم نكن نحسب حسابها أن ينزلق الإعلام في لعبة توفير ملاذات وحاضنات اجتماعية لحماية الفساد. اضافة اعلان
 إن نشر أخبار أو بيانات لجهات وتجمعات مصلحية أو عشائرية تندد بشكل أو آخر بتقديم هذا الشخص او ذاك للعدالة او مجرد فتح باب التحقيق في قضية ما، يشكل أداة ضغط في أيدي تلك الجماعات المصلحية التي تحاول توظيف العمق الاجتماعي لمصالحها على خلفيات العصبيات العشائرية والاجتماعية، ما يعني مدى الحاجة الطارئة أن تتبنى نقابة الصحفيين ميثاقا وقواعد تحريرية خاصة بتغطية وسائل الإعلام للفساد، تطلب صراحة من وسائل الإعلام تجاهل كل الأحداث ومحاولات الضغط التي تقصد حماية الفساد والفاسدين.
 الإدراك السياسي بأن مواجهة العواطف الاحتجاجية والانفعالات الحادة في الشارع بهجوم كاسح على الفساد برموزه وأنشطته ومنابعه فيه الكثير من الحكمة، لأن هذا الملف هو الأكثر قدرة على استيعاب فائض الاحتقان في الشارع والانفعالات الحادة، ولكن كل الخطورة بل ومنتهى الفساد السياسي أن تتحول هذه الحركة إلى مجرد تعبئة إعلامية  قصدها تغيير أولويات الناس، ولا تعبر عن اتجاه أصيل في وقف وكشف هذه الظاهرة التي تعد الأخطر في تحديد مصير الدول والمجتمعات. وبدل أن يكون الإعلام أداة متقدمة ورأس الحربة في المعركة ضد الفساد يتحول إلى أداة من أدوات تضليل الرأي العام والإفساد.
  صحيح ان وظيفة الإعلام توفير قناة حرة لتدفق المعلومات، تفترض أن توفر هذه  الوسائل رصدا لما يجري في بيئتها من أحداث، ولكن هذا لا يتناقض مع المسؤولية الاجتماعية لهذه الوسائل ومع الدور الرقابي الذي يعني أن يوفر الإعلام حصانة مجتمعية ضد الفساد لا الترويج للفساد وتخويف المجتمع والدولة وخلط الأوراق.   إلى هذا الحد كيف نقيم قدرات الإعلام الأردني في تغطية قضايا الفساد وفي ممارسة دورها الرقابي في الكشف عن الفساد،  وفق المعايير المعروفة في دور وسائل الإعلام في إدارة الشفافية والمساءلة. ومع افتراض حسن النوايا فإن البيئتين العامة والداخلية لوسائل الإعلام المحلية ما تزالان توصفان بضعف عام في تمثل الأدوات المهنية كما هو الحال  في الضوابط الأخلاقية؛ فمن المؤسف أن أطرافا في المجتمع الإعلامي تنقسم في الصراع بين مراكز قوى متورطة وتدور حولها الشبهات، يا ترى من يجرؤ على استرجاع الاصطفافات الإعلامية والتخندق والمعارك التي شهدتها الصحف والمواقع الالكترونية خلال السنوات الأربع الاخيرة في ضوء الحقائق التي تنكشف هذه الأيام.
  لم نؤسس لمنظومة قانوية داعمة لعمل الإعلاميين ومؤسساتهم في القيام بالوظيفة الرقابية؛ فمعظم التشريعات الناظمة للعمل الإعلامي وذات الصلة به ليست صديقة لهذه المهمة وعلى رأسها القانون العتيد (الحق في الحصول على المعلومات)، والذي يوصف بـ(قانون حجب المعلومات)، بينما حدّث بلا حرج عن القدرات المهنية وما يرتبط بها من تقاليد ومعايير. لقد اعتدنا أن يركب الإعلام الموجة كلما تم الكشف عن ملف فساد لأهداف سياسية أو لتصفية حساب بين القوى المتصارعة على المصالح. وباستثناء حالات محدودة، فإننا أمام ممارسات إعلامية غير مؤسسة على تقاليد المهنة وقواعدها في الاستقصاء والبحث والكشف، كما يحدث في كل بلاد الدنيا التي تبني فيها المؤسسات الاعلامية حضورها الإعلامي والمجتمعي وقوتها السياسية من قدرتها على تمثل هذه المبادئ كجزء أصيل من ممارستها.  لدينا تاريخ مخجل لعدد من وسائل الإعلام جديدة وتقليدية على حد سواء في مساندة الفساد والتستر عليه، ولطالما جعلت بعض تلك الوسائل من فاسدين أبطالا ورموزا، وجعلت من فاسدين مفاتيح للإصلاح والتحديث، وبدونهم سنعود للعصور المظلمة، ولطالما باعت علينا وسائل إعلام  فاسدين آخرين بأنهم حماة للوطن وأساطين في الانتماء.

[email protected]