إغلاق الحكومة الأميركية وخسارة النيوليبرالية

بحسب تقديرات شركة/ وكالة "ستاندرد أند بورز"، فإنّ ما يسمى "إغلاق الحكومة الأميركية" مدة 16 يوما هذا الشهر، كبّد الولايات المتحدة خسائر تُقدّر بـ24 مليار دولار، وقَلّصت النمو المتوقع في إجمالي الناتج القومي الأميركي للربع الرابع من العام الحالي، من 3 % إلى 2.4 %. على الصعيد الأيديولوجي، أوضحت الأزمة النفوذ غير العادي لحزب النيوليبرالية "حزب الشاي" في الولايات المتحدة، مقارنة مع نظرائه الأوروبيين، حتى وإنْ كان هذا الحزب قد هُزم مؤقتّاً، على الأقل.اضافة اعلان
في تحليل نشرته مجلة "فورين أفيرز"، جاء أنّ طروحات "حزب الشاي"، والذي هو عمليّا تجمّع تحت مظلة الحزب الجمهوري، لا تختلف كثيراً عن نظرائه عبر الأطلسي. وتشترك هذه الأحزاب في كراهيتها للضرائب، ومناهضتها لوضع قوانين تحكم الشركات، وعدائها لحكومة مركزية قوية، ولنظام رعاية اجتماعية مُكلف، مع وطنية تبرر العداء للمهاجرين الجدد، خصوصاً المسلمين، في نوع من العنصرية الديموغرافية. ومن هذه الأحزاب "حزب من أجل الحرية" في هولندا، وحزب الاستقلال في المملكة المتحدة، والرابطة الشمالية في إيطاليا، والجبهة الوطنية في فرنسا.
لقد اتجه العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية إلى ليبرالية اجتماعية وثقافية أكبر، مقابل ليبرالية اقتصادية أقل؛ بمعنى أنّ العالم أصبح أكثر تحللا من القيود على العلاقات الاجتماعية والجنسيّة، وأكثر انفتاحاً على المهاجرين، خصوصاً من الدول التي كانت أوروبا تستعمرها سابقاً، مع قيود أكبر على رجال الأعمال والشركات، وتوسعة دور الحكومات في الاقتصاد وتقديم خدمات التعليم والرعاية الصحية والمواصلات والإسكان والبنى التحتية.
أمّا الأحزاب النيوليبرالية، من مثل "حزب الشاي" الأميركي، فهي أقل تساهلاً اجتماعيّا في قضايا مثل السماح بالإجهاض، والعلاقات الجنسيّة المِثليّة. وتستقطب هذه الأحزاب متدينين محافظين، ولكن مع الدعوة إلى تقليص دور الحكومات، وسحب مهامها في مجالات كثيرة حد إدخال الشركات والقطاع الخاص بدل الجيوش والاستخبارات، وتقليص الخدمات والتأمينات الصحية، وتقليص القيود على عمل الشركات والبنوك، وتقليص الضرائب خصوصاً على رجال الأعمال والمستثمرين. وذلك على اعتبار أنّ السوق تنظم نفسها بنفسها، بدلا من التعقيدات الحكومية؛ وأنّ تقليص القيود والضرائب يزيد الإبداع والاستثمار والتنافس المحفز للإنتاج والتطوير؛ وأنّ القطاع الخاص أكثر كفاءة من القطاع الحكومي. يضاف إلى هذا معارضة دور المنظمات الدولية، كالموقف العدائي من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
على هذه الخلفية، كان طبيعيّاً خلاف أعضاء هذا الحزب في الولايات المتحدة مع الرئيس (الديمقراطي) باراك أوباما الساعي إلى تعزيز دور جهاز الرعاية الصحية الحكومية، والساعي أيضاً إلى رفع سقف الاستدانة الحكومية بهدف الاستمرار في تغطية خدمات اجتماعية، كما الساعي إلى إصلاح في نظام الهجرة والمهاجرين. وبالتالي، عدم التوصل لاتفاق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن الموازنة، وعدم إقرارها في الوقت المحدد، ما أدى إلى توقف خدمات ودوائر ووزارات، وتوقف العاملين فيها عن العمل مع توقف رواتب جزء منهم، وبالتالي أيضا تعثر قطاعات سياحية، وخدمية، وعقارية، وتجارية مختلفة.
لا يملك حزب الجبهة الوطنية الفرنسي، الذي ربما يَفُوق الأحزاب الأوروبية الشبيهة قوة، أكثر من مقعدين من أصل 577 مقعداً في البرلمان الفرنسي، مع أنّ قوته الشعبية أكبر من هذا، وتقدر بنحو 24 % من الشارع؛ لكن نظام الانتخابات لا يعطيه أكثر من هذا الحجم. وفي الولايات المتحدة، يملك حزب الشاي نحو 50 مقعدا من أصل 535 مقعداً في الكونغرس، ولكن عضوية المنتمين لحزب الشاي في الحزب الجمهوري، وقدرتهم على التأثير في قرارات الأخير، تعطيهم تأثيراً كبيراً، فيما التأييد الشعبي، حسب استطلاعات رأي، يعطيهم 22 %  من دعم الشارع.
استطاع أوباما تمرير أغلب ما يريد من قرارات، لكن وفق اتفاق مؤقت حتى مطلع العام 2014، ما يُرشّح الأزمة للعودة قريباً. في الأثناء، تُظهر استطلاعات الرأي أنّ التأييد للحزب الجمهوري يتراجع بسبب المواقف في الأزمة الراهنة، ما قد يقود إلى تقوية الصفوف داخل الحزب ضد جناح "الشاي" فيه. لكن مثل هذا الحزب يحظى بدعم خاص من أصحاب رؤوس الأموال، وربما تكون الأشهر المقبلة مهمة في رؤية التوجه الاقتصادي والأيديولوجي وحتى الثقافي في الولايات المتحدة؛ بين التوجه الوطني المتشدد الذي تعبر عنه هذه المجموعة، وبين منهج أكثر انفتاحاً نسبيّا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، وأقل ليبرالية اقتصادياً وبيروقراطيّاً.

[email protected]