إمبراطورية الخراب أم دولة حلم؟

احتفل تنظيم "داعش" بالذكرى الأولى لإطلاق "دولة الخلافة الإسلامية" بحزمة عمليات إرهابية مبتكرة، في إطار استراتيجيته القائمة على "الصدمة والترويع". وتمثّل رعب التنظيم في إعدام مدنيين في مناطق نفوذه الجغرافي والسياسي؛ من خلال تفجير رؤوسهم وإغراقهم داخل أقفاص. فيما نفذ عالميا، سلسلة تفجيرات متزامنة، طالت تونس والكويت، إضافة إلى هجوم على مصنع في فرنسا.اضافة اعلان
والحبل على الجرار، على ما يبدو! رغم التغنّي بالغارات الجوية والتحالفات الدولية ضد هذا التنظيم. فهو يتمدد كالأخطبوط مذ سقطت تكريت والموصل في قبضته، قبل أن يحكم سيطرته على نصف مساحة سورية، و40 % من مساحة العراق، ويحرك أذرعه الدموية لتنفيذ عمليات نوعية في عدّة قارات.
عيون "داعش" اليوم تتجه إلى اسطنبول ومدن عربية مجاورة ذات غالبية سُنّية، على طريق بناء مشروع إمبراطوريته الدموية التي تقذف بالمنطقة إلى الظلامية وبكل الاتجاهات.
في عام، تحول "داعش" إلى قصّة "نجاح" نادرة في العالم العربي، بحسب مؤيدي التنظيم ومريديه، ممن غسلت عقولهم بين ليلة وضحاها. من بين هؤلاء أبناء وبنات كادحين، ومثقفون يتحدرون من الطبقة الوسطى تحولوا من محبين للحياة إلى عشّاق للذبح والدمار!
بات لداعش فروع في عديد دول عربية وغربية، وأنصار ومبايعون ينبتون بسرعة. وتحول أبو بكر البغدادي الذي نصّب نفسه "خليفة" لهذه الدولة الإرهابية إلى شبيه برمزية المناضل الأرجنتيني تشي (الرفيق) غيفارا؛ الطبيب ابن العائلة البرجوازية الذي تحول في أقل من عقد إلى ثائر ومفكر وزعيم للفدائيين، ومنظر عسكري، يبحث عن المظلوم لينصره في أي بقعة في العالم. وهكذا وسم في عيون عشّاقه بأنه مكافح أسطوري، ورمز للثورة الكوبية ضد الإمبريالية، مرادف للنضال المشروع من أجل الحرية. لكن في الخندق الآخر، كان ينظر إليه باعتباره إرهابيا مكروها، ووحشا كاسرا.
اسم البغدادي اليوم يثير الشيء ونقيضه: الحب أو الكراهية؛ النضال لتحقيق إمبراطوريته أو الإرهاب والمذابح الوحشية.
وبات "داعش" جزءا من الجغرافيا العربية الجديدة قيد التغيير والتقسيم. يتمدد صوب تخوم دمشق وبغداد، يحتل مدنا جديدة ويوسع قاعدة أتباعه حول العالم، بالاعتماد على سحر أقواله ورهاب أفعاله، مستغلا عوامل سياسية واجتماعية وأيديولوجية عابرة للقارات.
المؤسف، أن غالبية دول العالم تقف مكتوفة الأيدي أمام زحف "داعش". وإذا كان ذلك مفهوما، إلا أنه غير مقبول.
في منطقتنا، تزعزعت صفائح جيوسياسية وأيديولوجية منذ اندلاع الثورات قبل أربع سنوات. انزلقت دول عديدة صوب الحرب والفوضى، وتحولت إلى دول فاشلة، فيما تقترب أخرى من هذه المقاييس. وفئة ثالثة تهرول مرة أخرى صوب العسكرة والسلطويات المطلقة التي قدحت شعلة الثورات.
الجدل الداخلي والخارجي حول "داعش" مستمر. في نظر المؤيدين، تحول التنظيم إلى نموذج لمشروع "ناجح ومشرق"، تقابله مشاريع لدول فاشلة، تقوم على قوة الأمن وتكميم الأفواه والفساد والإفساد وتداخل السلطات وحكم الفرد الواحد مدعوما بنخب سياسية واقتصادية عاجزة عن التواصل خارج بيئتها أو التفكير في مصالح المجتمع. فلا أحد يحب أن يقف بجانب الخاسر. وفي نظر هذه الفئة، يشكّل "داعش" جبهة رابحة.
هذا التنظيم الذي قام على القتل والذبح وسرقة الآثار وتهريب النفط وترويع الناس، يقدّم اليوم، وللأسف، أنموذجا يدغدغ مشاعر المتطلعين إلى عالم مثالي لم يجدوه على الأرض. عالم تتحقق فيه الشريعة والمساواة بين المسلمين في دولة الخلافة، مع إلغاء الحدود السياسية، وإقامة الدين في الأرض، وتوفير العدالة الاجتماعية والخدمات التعليمية والصحية وإطعام الفقراء. يضاف إلى ذلك سراب الأمن ووأد الفوضى، عبر فرض عقوبات رادعة؛ مثل قطع يد السارق وحث الناس على الصلاة واستبدال نظام الضرائب الرأسمالي بالزكاة. "بروباغاندا" التنظيم تبّثها أذرع دعائية وخطاب إعلامي معزز بأدوات تواصل اجتماعي، تستخدم آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا الرقمية المحببة للشباب لصيدهم وتجنيدهم. وآخر الطرائد فتاة مسيحية كتبت عنها صحيفة "نيويورك تايمز" قبل أيام.
"داعش" بدأ بطرح الدينار الإسلامي. يرخص السيارات في مناطق نفوذه بلوحات خاصة به. ويدير المدارس والمشافي، ويجمع الزكاة من المسلمين، بينما يفرض الجزية على المسيحيين.
"داعش" يتغذّى
على فشل الأنظمة العربية
المحفزات الثقافية والتراثية داخل الدول العربية والإسلامية تصب في مصلحة "داعش". فغالبيتها تعاني من ويلات التهميش وتغييب العدالة والمشاركة السياسية الفاعلة في عملية اتخاذ القرار، وغياب التوزيع العادل لمكاسب التنمية الاقتصادية. غالبية الأنظمة العربية منحت "داعش" والفكر الظلامي مساحات واسعة لنشر الكراهية والطائفية والجهل والتشدد والانغلاق في مجتمعاتها، بحيث تغلغلت في عروق وشرايين الحياة اليومية للناس. وساهمت ثورة الاتصالات وتوابعها، من "تويتر" و"فيسبوك" و"إنستغرام"، في كسب قلوب آلاف الشباب الضائع الباحث عن هوية خاصة به، وفي تجميع أواصر الجماعات المتطرفة وتحويلها إلى قوة كونية ضاربة عابرة للحدود.
حال "داعش" اليوم كحال شركة مساهمة عامة رابحة، تستثمر فيها غالبية الأنظمة لخدمة مصالحها الوطنية أو الإقليمية المتناقضة والمتقاطعة معا.
الأردن يظل الدولة العربية الوحيدة التي تشارك بفعالية، إلى جانب الولايات المتحدة، في استهداف "داعش جوا". فغالبية دول المنطقة التي كانت تشارك في التحالف العربي-الدولي ضد التنظيم انسحبت فعليا، وتوقفت عن المشاركة في الطلعات الجوية أو في الجهد العسكري. وعلى الأرض، تبقى "البشميركة" الكردية القوة الوحيدة التي تحارب "داعش" في العراق. حكومة حيدر العبادي في العراق يصعب الاعتماد عليها لمحاربة هذه الآفة؛ فهي أسيرة حسابات داخلية معقدة، وتحالفات أكبر منها. ودعوات تأسيس قوات ردع عربية تخوض القتال على الأرض ضد "داعش" وغيره، لم تخرج عن نطاق الكلام والفزعة.
الأتراك غير معنيين بمحاربة هذا التنظيم الذي بات يشاركهم الحدود، وإلا لما ساهموا في إدخال أكثر من 50 % من المقاتلين الأجانب عبر حدودهم إلى سورية، وسمحوا لهم بتهريب الآثار والنفط.
النظام السوري أولويته البقاء. حساباته تتبدل، لكنه يستخدم "داعش" كمثال لما سيؤول إليه الوضع إذا تواصلت الحرب التي دخلت عامها الخامس على طريقة "أنا أو الطوفان الداعشي وأخواته". في الوقت ذاته، يحاول النظام ضبط قوته لكي لا ينقلب السحر على الساحر، بينما المعارضة بألوانها الدينية والعلمانية واليسارية منقسمة على نفسها، ولا توفر بديلا مقنعا لبشار الأسد وما بعده.
والسعودية ليست معنية بمحاربة هذا التنظيم، فذلك لم يعد أولويتها منذ صعود الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى سدة الحكم في 23 كانون الثاني (يناير) الماضي. اليوم، تنشغل الرياض في حرب بالوكالة مع إيران حول النفوذ، تدور رحاها في اليمن. فالتهديد القادم من المتمردين الحوثيين المدعومين من طهران أشد من تهديد "داعش".
مصر قلقة من تمدد "داعش"، لكنها منهكمة في معركتها ضد الإرهاب في شبه جزيرة سيناء، وفي إنعاش الاقتصاد وإعادة الأمن والاستقرار عبر عشرات الأحكام بالمؤبد والإعدام، لا تميز بين إسلامي وليبرالي ويساري. فكل من لا يقف في صف السلطة بات عدوها.
والأوروبيون منهمكون في محاصرة قوارب المهاجرين غير الشرعيين من عرب وأفارقة، وحواضن التطرف داخل بلادهم، مع تفاقم ظاهرة المقاتلين الأجانب والعمليات الإرهابية في بعض مدنهم بيد "دواعش" محليين.
باختصار، المجتمع الدولي يقف عاجزا، باستثناء جهد محدود للولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي أرسلت مستشارين ومدربين عسكريين إلى العراق؛ وباستثناء الجهد الأردني الذي يفوق طاقة البلاد بأضعاف، على أمل صد الطوفان الذي يهدّد استقرار آخر جزيرة آمنة في محيط متزلزل.
ربما ستتغير سلوكات الدول الأوروبية وحلف "الناتو" بعد أن ضرب إرهاب "داعش" فندق سوسة في تونس، وبات يقترب من تخومهم. فلا شيء سيوقف زحف "داعش" إذا لم يحشد العالم لمحاربته؛ أرضا وجوا، وإخراجه من الجغرافيا التي بات يطرح منها أنموذج الخلافة الإسلامية الفاضلة. وبعد ذلك، قد تنجح معركة التشبيك مع أيديولوجيته الإرهابية لتعريتها، لكن سيتطلب ذلك سنوات وربما عقودا، بشرط أن تراجع الدول الفاشلة ونصف الفاشلة والسلطويات الدكتاتورية سياساتها ومناهجها التعليمية.
بخلاف ذلك، ستخوض عديد دول في المنطقة والعالم الحرب ضد "داعش" وممارساته الإرهابية على أراضيها. فمن سيوقف إمبراطورية الخراب وعصور الجاهلية الأولى؟