"إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون"

Untitled-1
Untitled-1

د. محمد المجالي

وردت عدة آيات في كتاب الله تعالى حول هذا المعنى، حين ردّت أقوام على أنبيائهم بشأن عبادتهم غير الله، بأنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون، فهو الدليل الوحيد في نظرهم، ويستغل صاحب السلطة مثل هذه السذاجة في الأقوام، يشجعه الملأ من قومه، ليشيعوا تمسكهم بثوابتهم التي لا يجوز الخروج عليها، ولو أعملوا شيئا من عقولهم لوجدوا أنه الزيف والحمق والتقليد الأعمى ليس إلا.اضافة اعلان
قص الله علينا ما جرى بين إبراهيم عليه السلام وقومه، في حواره معهم قبل تحطيم الأصنام التي عُبِدت من دون الله، وبعد تحطيمها، وكان إبراهيم عليه السلام يستدرجهم في هذا الأمر لعلهم يعقلون فيرجعوا إلى صوابهم، حين أبقى كبير الأصنام سالما، ولما سألوه: "ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون"، هنا يبين الله تعالى شيئا مما فكروا به عرضا دون أي تعمق ومتابعة: "فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون. ثم نُكسوا على رؤوسهم، لقد علمت ما هؤلاء ينطقون"، وهي حجة واهية، كان الأجدر بهم أن يسخروها لترك عبادة هذه الأصنام، فهي لا تملك من أمرها شيئا، لا تضر ولا تنفع، ولم تدفع عن نفسها الأذى، وهنا يستغل إبراهيم عليه السلام الفرصة ليجيبهم: "قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون"؟
إنه التقليد والاتباع الأعمى، وإلغاء العقل عن إدراك أبسط ما يمكن إدراكه وتصحيح المسار، يعزي الإنسانُ الجاهل به نفسه، ويطمئن نفسه والآخرين به، بل يشجع بعضهم بعضا بأن هذا هو الحق المبين، والصبر عليه مهم لدفع كيد المتآمرين!! استمع لقول الله في شأن قريش وهم على الوتيرة نفسها، حين كذّبوا محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بالسحر والكذب، ومن قبل ذلك اتهموه بالكهانة والجنون، قال تعالى: "وعجبوا أن جاءهم منذر منهم، وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عُجاب! وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم، إن هذا لشيء يُراد، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق، أأنزل عليه الذكر من بيننا، بل هم في شك من ذكري، بل لما يذوقوا عذاب"، ونلحظ دور الملأ في حث العوام على الصبر على عبادة الآلهة، وأن الكيد لها أمرٌ مدبَّر بليل، وأنه بدعة يريد محمدٌ أن يفتنكم بها، حين جعل الآلهة إلها واحدا، وزادوا في إقناعهم أنفسهم وغيرهم، أنْ كيف يوحى إليه (محمد) من بينهم؟! مع أنه من أشرف قريش نسبا، ولكنها الغوغائية.
لعل ما انطبق على المشركين قديما ينطبق على غيرهم حديثا، وربما –مع فارق التشبيه- ينطبق على بعض أهل الحق حين يجمدون عند رؤى هي في الأصل وسائل، أو أمور اجتهادية، ليصنعوا منها ثوابت وأركانا لا تتزحزح، وربما يكون لسان حالهم من حيث يدرون ولا يدرون: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، فكيف بغير هؤلاء ممن تمسك بعادات وتقاليد، ربما يقدمونها حتى على النصوص الشرعية الصريحة؟! وهو في الحقيقة أمر عجاب.
مما ينبغي الإشارة إليه في السياق نفسه أيضا، ما تعوده الناس من ألفة لواقع مؤلم، سياسي أو اجتماعي أو تربوي أو غير ذلك، ويحاول أحدنا أن يقنع نفسه والآخرين بأن هذا المنهج أو الأسلوب هو الأفضل، مع أنه ربما يكون هناك ما هو أفضل منه كثيرا.
لعل من الدروس المقتبسة من الآية أن يُعْمِل أحدُنا عقلَه في المسائل كلها، وأن تكون عنده روح المبادرة والبحث، وألا يكون إمّعة، فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم معرفتهم بأنه رسول يوحى إليه، إلا أنهم أحيانا يقترحون ما يرون به المصلحة، ولكن بعد تأكّدهم من أن ذلك الشأن لم يأت فيه وحي، فنجد الحباب بن المنذر رضي الله عنه مثلا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن موقع جيش المسلمين في بدر، هل هو بأمر من الله أم باجتهاد؟ وحين أعلمه رسول الله بأنه اجتهاد اقترح عليه موقعا آخر، وهكذا فعل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما في شأن مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم بعض قبائل الأحزاب الذين حاصروا المدينة في غزوة الأحزاب، فذهبا إليه وناقشاه في المسألة، فتراجع النبي صلى الله عليه وسلم عن قصده، والأمثلة في ذلك كثيرة.
تدل نصوص ديننا الحنيف، قرآنا كانت أو سنة، بأن ما كان واضح الدلالة على أمر ما، مع تنصيص على التمسك به، فهو الذي لا تجوز مخالفته، مع استحضار قواعد الدين العامة ومقاصده، ومصالح الأمة التي جاءت الشرائع لتحقيقها، واستصحاب خصائص هذا الدين، خاصة المرونة والتوازن وتقدير الضرورات بقواعدها، فحركة الاجتهاد مستمرة، ودين الله كامل، رضيه الله لنا وأتم به علينا النعمة، والمطلوب حسن الانتماء وحسن الفهم والتوجيه والتخطيط، مع كامل التوكل على الحي القيوم، سبحانه.