إنهم ضائعون فعلاً

تبين لي بالملاحظة والمحادثة والمحاورة والمتابعة، أن الشباب –إجمالاً– ضائعون فعلاً؛ فكرياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وأنهم مرتع خصب للأفكار المتطرفة والمصائد الإرهابية والجماعات السرية التي تلتقطهم وتشكل عقولهم ورؤيتهم لأنفسهم ولغيرهم وللعالم على هواها. وتبدو لهم كمن ينقذهم ويأخذ بأيديهم ويدلهم على الطريق من حالة الضياع أو القلق والحيرة التي تنتابهم. إنها تجعل لهم رسالة في الحياة، وهي رسالة خطرة عليهم وعلى الجميع. اضافة اعلان
ولأنني أمشي كثيراً كل يوم -مقتدياً بفلسفة أرسطو المشائية- وأتحرك أكثر بين الناس وأبادرهم بالحديث، فإنني ألتقي بطلبة مدارس وجامعات وشباب متخرجين فيها، فأتحدث معهم وأحاول استنطاق ما في بواطنهم أو معرفة بماذا يفكرون. ومن ذلك، مثلاً، أن شاباً بالعشرينيات من العمر قال لي بافتخار: "أنا لا أقرأ جريدة ولا أتابع الأخبار. أنا أعرف شيئاً واحداً فقط، أن العالم كله ضد الإسلام". ولما قلت له: إن أوروبا تستقبل ملايين المسلمين الفارين من بلدانهم وتؤمن لهم المأوى والأمن والتعليم والعمل، وتسمح لهم ببناء الجوامع والمراكز الإسلامية في عواصمها ومدنها دُهش، وبدا أنه يعيد النظر في مخزونه الفكري السطحي. ثم واصل الحديث معي وطلب المزيد واللقاء ثانية. لقد تركته في حال أفضل نفسياً مما كان عليه في بداية اللقاء.
وفي صدفة أخرى، خرجت من البنك والبرد يسقط. فمشيت إلى عمارة مجاورة تعج بالحوانيت، والشباب العاملون فيها يتجمعون ويراقبون سقوط البرد. فوقفت إلى جانبهم وبدأت الحديث معهم، وإذا بأفكارهم مصممة باتجاه واحد كالشاب السابق ذكره، مع أن بعضهم كان حالقاً رأسه على طريقة المصارع "جون سينا".
لقد تبين لي بعد هذه اللقاءات وكثير غيرها، أن الشباب متعطشون للالتقاء بالراشدين فرادى أو في مجموعات صغيرة، تمكن كلا منهم من المشاركة، وأنهم ينصتون ويفكرون ويفرحون ويستريحون باللقاء، لأنه ينتشلهم من عزلتهم ويحررهم من أوهامهم وأفكارهم السطحية أو المعتلة. وأنه كلما كان الحوار صريحاً، حتى في الخصوصيات، مثل الحب والجنس... كان أكثر جدوى. إنك ترى علامات الرضا والدهشة بادية على الوجوه: لقد كانت هذه الفكرة أو المعلومة غائبة عني. وهم بعد اللقاء يراجعون مخزونهم الثقافي الهش، وينمون فكرياً وصحياً.
ينظر راشدون (كبار في السن) إلى الشباب كمشكلات أو كمصادر للمشكلات، مع أنهم أعظم الموارد في المجتمع؛ فبهم يستمر ويبقى، ومنهم يحصل على طاقات جديدة، ومنهم يأتي قادة المستقبل، وإذا لم يعدوا بصورة جيدة بمعارف منفتحة، وخبرات غنية ومهارات قوية وتعلم مستدام، وإذا لم يتحاور الراشدون معهم، فإن المجتمع قد يصاب بالتصحر القيادي، والقحط بالإبداع والابتكار في الآداب والفنون والعلوم والتكنولوجيا.
إن لقاء الراشدين الحميم معهم يرفع من تقديرهم لأنفسهم واحترامهم لها، ويوسع خياراتهم المستقبلية، ويكوّن أو يعزز القيم الإيجابية عندهم، ويحبب الحياة لهم ويجعل لها غرضاً. إنه رسالة أمل أو احتفال بالنجاح والأخبار السارة، لا اليأس والبث الدائم لأخبار الجريمة.
لكن بالله عليكم، هل رأيتم يوماً معلماً أو معلمة أو مديراً/ة في مدرسة يتمشون في ساحتها في فترة "التنفس"، فيتحلق حولهم التلاميذ أو التلميذات ويتحاورون معهم في موضوعات غير مدرسية تهمهم؟ وهل رأيتم يوماً أستاذاً أو أستاذة أو رئيساً في جامعة يتحركون في حرمها بعد المحاضرة أو ساعة المكتب (الواقفة)، ويتحلق بعض الطلبة حولهم في حوار عن شأنٍ ما؟ إننا لا نتواصل مع الشباب بما يكفي أو يلزم.
لا يعني ذلك وقد لا يمكن التواصل مع الجميع. يكفي التواصل مع أعداد قليلة منهم في كل مرة، لينتقل ما دار في اللقاء بالإشعاع أو الحمل إلى بقية زملائهم. إننا نتركهم فريسة سهلة لجهات أو منظمات أو أفكار إرهابية أو إجرامية تلتقطهم وتضمهم إلى صفوفها، لنفاجأ بعد ذلك بالأخبار عن مقتلهم أو عن إصابتهم في معارك "داعش" أو "جبهة النصرة".. أو بالقبض عليهم متلبسين في تهريب أو مخدرات أو دعارة.