"إنهم يقتلون الجياد. أليس كذلك؟"

«إنهم يقتلون الجياد. أليس كذلك؟»، بهذه الجملة التي جاءت بين الكشف والاستفهام والمرارة، تلخص جين فوندا مآل البشر المعذبين، والذين يلهو بهم رأس المال من دون أدنى اعتبارات لإنسانيتهم، في الفيلم الذي كانت عبارة الخاتمة اسما له. الفيلم معروف جدا، وهو إحدى التحف المقدرة في تاريخ السينما العالمية، لذلك لن أتطرق إليه بشكل مباشر، لكن العبارة التي ختم بها الفيلم تكشف موقفا مأزوما تواجه فيه الثقافة لحظة هزيمة واضحة، بحيث لا تستطيع فيها منافسة التسطيح، أو العبث الإنساني كما يكشفه الفيلم. الفيلم الذي عرض في نهاية ستينيات القرن الماضي، قد يشكل كشفا مبكرا عما ستكون عليه «الليبرالية المتوحشة»؛ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، رغم أنه كان يستكشف التناقضات الخاصة في المجتمع الأميركي بالاستناد إلى الرواية التي تحمل الاسم نفسه للكاتب هوراس ماكوي. ورغم أن الرواية جاءت في العام 1935 لتعبر عن التغيرات الدراماتيكية في المجتمع الأميركي الذي خلخلته فترة الكساد العظيم الذي بدأ بأزمة اقتصادية خلفها انهيار سوق الأسهم الأميركية في ما يعرف بـ»الثلاثاء الأسود»، إلا أن مخرج الفيلم الذي جاء بعد حوالي 35 عاما، استطاع أن يلتقط روح الرواية ليوجه إدانة للثقافة التي تأسست على معاناة المجتمع وآلامه. الفيلم، في ما يمثله، يقع في خانة «الثقافة المضادة» التي حاولت تسليط الضوء على فساد النظم والأنساق القائمة، وما تفرضه المجتمعات المشوهة من أنماط استهلاك لا تعترف بما هو فوق مادي، وأيضا «رفض وإدانة المركزية الغربية في تعريفها للقيم الجمالية والأخلاقية والسياسية». وللمصادفة، جين فوندا نفسها كانت واحدة من أبرز الناشطات خلال فترة «الثقافة المضادة»، خصوصا ما اتصل منها برفض حرب فيتنام، ومحاولات الكشف عن الوجه الحقيقي القبيح واللإنساني لتلك الحرب. الأمر كلفها بأن يتم وضع اسمها على القائمة السوداء في هوليود، ومقاطعتها لفترة من الزمن. غير أن الثابت أن فوندا وزملاء كثيرين لها، استطاعوا بالفعل خلخلة المفاهيم في المجتمع الأميركي المستلب للرواية الرسمية، وأن يكشفوا عن مهمة أخرى للعقل، وهي الاصطدام مع الواقع، ومواجهة روايات التضليل، وكشف ألاعيب السلطة. في البعد الثقافي، نستطيع أن نطلق على هذا النوع من الفعل «الاختلاف» أو «المغايرة»، وهو فعل حر يتأتى من إعلاء شأن «الفردانية» التي ترى أنها قادرة على رفض مطلق لـ»ثقافة القطيع» المفروضة بجملة من «المسلمات»، أو «الينبغيات» المحروسة بالسلطة بأنواعها المتعددة ومفهومها الواسع. لكن، هل ينبغي للثقافة أن تخوض حربا وحيدة، وحين تنجح في خلخلة المسلمات، تستسلم للنوم على اعتبار أنها حققت المطلوب؟! بالتأكيد هذا مفهوم خاطئ لدور الثقافة التي لا يتوجب استدعاؤها، فقط، لمواجهة الاختلالات، بل ينبغي أن تظل قائمة بمهمتها الأساسية، وهي حماية وحراسة القيم غير المادية التي تتأسس في المجتمعات بواسطة الخبرات الإنسانية المتراكمة. من هذا الفهم لدور الثقافة المفترض، لا بد لنا أن نتأكد أننا، وفي هذه اللحظة بالذات، نحتاج إلى «ثقافة مضادة» نواجه فيها التسطيح والعبث المفروض علينا من السلطة بمفهومها الواسع، وأن نرفض التسليع والتنميط. يبدو أن جائحة كورونا وما خلفته من دمار كبير في القطاعات جميعها، تسرب خرابها إلى روح الإنسانية، تماما كما فعل «الكساد العظيم» بإطلاقه الشر الكامن في الرأسمالية المتوحشة التي لم تكترث بالإنسان بقدر ما اكترثت بالأسواق. اليوم، لا توجد ثقافة مضادة بالمعنى العملي، ولا حتى على المستوى التنظيري، فما هو موجود إما أن يكون مثاليا متراجعا عن الفعل، أو يدعي الواقعية لينسجم مع الثقافة السائدة بما تمثله من أنماط استهلاكية تدعي التنوير، لكنها لا تمثله. قلنا إنه موقف ثقافي يتحدد بإعلاء «السلعي» على «القيمي»، حتى لو تم من خلال ذلك التأسيس لاتساع الفجوة المعرفية في المجتمعات التي بدأت بالتخلي عن بناها المعرفية والثقافية، أو ما اصطلح على تسميتها «البنى الفوقية» الجامعة لمصلحة «ثقافة السوق». الثقافة اليوم تتكئ على أشكال تغري بالسخرية، فهي تعجز فيها عن تشكيل خطاب متصالح مع المجتمع يمكن له أن يؤسس لحالة استقطاب حوله، ما جعلها معزولة وغير فاعلة، والأهم أن المجتمع ينظر إليها بتنميط وتسطيح كبيرين.اضافة اعلان