إيجاد التوازن بين الدولة والسوق

  في المستقبل، سوف ننظر إلى الأزمة المالية الاقتصادية التي اندلعت في عام 2008 باعتبارها لحظة تحول، وذلك لأنها أثارت تساؤلات جوهرية حول الهيئة المستقبلية لأنظمتنا الاقتصادية. وهذه التساؤلات لا تدور في الأغلب حول نهاية الرأسمالية ـ كما يتصور البعض أو كما يرغب آخرون ـ ولكنها تدور بدلاً من ذلك حول الطرق المختلفة التي تُفهَم بها الرأسمالية في البلدان المختلفة.

اضافة اعلان

إن ما نشهده اليوم صورة معكوسة للمناقشات التي دارت في ثمانينيات القرن العشرين. آنذاك كان ريجان يمزح قائلاً: "إن الكلمات الأكثر إثارة للرعب الآن هي: أنا من الحكومة ولقد أتيت لمساعدتكم!". والآن بعد أن أنفقت الحكومات تريليونات من الدولارات واليورو والين والجنيهات من أجل تثبيت استقرار الأسواق المالية والاقتصاد عموماً، فمن الواضح أن الكلمات نفسها تبدو أقل إثارة للرعب.

الواقع أن الإيمان بالسوق قد تأثر بالسلب كثيراً نتيجة للأزمة، في حين أخذت الثقة في الحكومة والهيئات التنظيمية في الازدياد. فبعد عقود من الإجماع على أن دور الدولة لابد وأن يقتصر على وضع القواعد ثم ترك القطاع الخاص يدبر أموره بنفسه، أصبح العديد من الناس ينظرون إلى الدولة الآن باعتبارها قوة مفيدة ولابد أن تلعب دوراً نشطا في الاقتصاد.

وهذا يحدث على الرغم من غياب أي إشارة واضحة إلى تفوق الدولة. بل إن الأمر على العكس من ذلك، فربما كان التدخل الشديد من جانب حكومة الولايات المتحدة في سوق الإسكان الأميركية على سبيل المثال من أوضح الأمثلة لأوجه القصور التي تعيب الدولة، وهو التدخل الذي أسهم بقدر كبير بلا أدنى شك في اندلاع الأزمة.

الواقع أنني أستشعر الآن استعداداً متنامياً للتخلي عن فوائد الإبداع والابتكار ـ وليس أقلها الإبداع المالي ـ في مقابل خطوات أبطأ نحو التغيير، وهو ما يفترض أن يمنحنا قدرة أعظم على السيطرة. وهذا التحول لن يؤدي فقط إلى إعاقة النمو في المستقبل، بل وقد يؤدي أيضاً إلى جلب مخاطر أخرى.

والخطر الأول يتمثل في تحميل الدولة لنفسها قدراً من الأعباء أعظم مما ينبغي لها. فالتوازن المالي في بلدان مجموعة العشرين سوف يتدهور بشكل كبير نتيجة للأزمة. سوف يتحسن العجز نوعاً ما مع استعادة الاقتصاد لعافيته وانحسار تدابير الدعم. ولكن لا نستطيع أن نزعم أن كل التدابير التي تم اتخاذها مؤقتة أو معقولة من الناحية الاقتصادية. فقد استخدمت أغلب الحكومات حزم التحفيز لخدمة المصالح الخاصة أيضاً. ومن المؤكد أن الديون المتراكمة سوف تشكل عبئاً مستديماً على إدارة الموارد المالية العامة.

ويتعين علينا أن نتذكر فضلاً عن ذلك أن الميزانيات كانت مجهَدة حتى قبل الأزمة، وأن الموازنات الحكومية لا تعكس جوانب الحقيقة كافة. ففي ألمانيا على سبيل المثال يقفز الدين الإجمالي من نسبة 65 % الحالية من الناتج المحلي الإجمالي إلى 250 % إذا أضفنا الالتزامات الخاصة بمعاشات التقاعد.

وأصبحت أقساط الفائدة تشكل حصة متزايدة الحجم من الموازنات العامة ـ وسوف تستمر في النمو حين تبدأ أسعار الفائدة في الارتفاع من جديد. وفي غياب الالتزام السياسي القوي والخطط الجديرة بالثقة لتعزيز الأوضاع المالية بالتدريج، فإن الخطر قائم في ارتفاع العائدات السيادية بشكل ملحوظ ـ وما قد يترتب على ذلك من تأثيرات سلبية على الاقتصاد والسياسة.

والخطر الثاني يتمثل في استمرار الحكومات في رؤية مفادها أن واجبها يملي عليها أن تقرر أي الشركات تستحق الإنقاذ وأيها تستحق أن تترك للإفلاس. لذا فلابد من رسم خطٍ واضحٍ بين وقت الأزمات، حين يتطلب الأمر اتخاذ تدابير طارئة لتجنب الانهيار الاقتصادي، وبين الظروف الطبيعية حيث يحتاج الأمر إلى توظيف القوة الكاملة لآليات السوق.

بيد أن الحكومات قد تميل غريزياً إلى تجنب فكرة حماية الشركات الوطنية الكبرى أو إعادة تأكيد السيادة الوطنية في بعض القطاعات. ولكن الغرائز ليست بالضرورة أساساً سليما لاتخاذ القرار. وفي زمن العولمة لم يعد التمييز بين "الوطني" و"الأجنبي" مناسباً ولا مجديا.

ولكي نحافظ على قدرة الدولة على العمل مع تجنب التشوهات التنافسية بين الصناعات وداخلها، فيتعين علينا أن نؤسس المعايير اللازمة لتوجيه القرارات في المستقبل في هذا المجال. ومن حيث المبدأ فإن الشركات التي كانت تواجه متاعب قبل اندلاع أي أزمة اقتصادية حادة لا ينبغي لها أن تكون مؤهلة للحصول من الدولة على مساعدات من ذلك النوع الذي شهده العالم مؤخراً. فضلاً عن ذلك فإن المساعدات لابد وأن تكون محدودة، خشية أن تدمن عليها الشركات.

ويتعين على الحكومات أيضاً أن تكون مدركة للتكاليف على الأمد البعيد: ذلك أن تدخل الدولة على نطاق واسع في عمليات السوق من شأنه أن يسفر عن فوز مجموعة من الشركات وخسارة مجموعة أخرى. وقد يتأخر التغيير البنيوي، الأمر الذي سوف يحرمنا من الفرص التي أتاحتها لنا الأزمة لبناء صناعات أكثر نشاطاً وقدرة على المنافسة ـ ويعجل بالانحدار العالمي النسبي للقوى الاقتصادية الناضجة.

أما الخطر الثالث فيتلخص في أن تدخل الدولة على نطاق أوسع في الاقتصاد لابد أن يؤدي إلى التحول بعيداً عن العولمة، الأمر الذي يمهد الطريق أمام أشكال متعددة من الحماية الوطنية. ويمكننا أن نرى هذا الآن في الصناعة المالية، حيث أدت ملكية الدولة المتزايدة إلى خطرٍ داهمٍ يتمثل في العودة إلى التأميم وإعادة تجزئة الأسواق المالية.

إن العديد من المؤسسات المالية التي حصلت على أموال حكومية كانت تركز على الأسواق الوطنية، الأمر الذي أدى إلى تراجع أنشطتها في الخارج. وعلى نحو مماثل، هناك خطر يتمثل في أن تؤدي التنظيمات الجديدة، إما عمداً أو كعَرَضٍ جانبي غير مقصود، إلى إعادة تأميم الأسواق.

من المفهوم أن تسعى الحكومات إلى العزاء والسلوى في السلامة المفترضة للأسواق الوطنية. ولكن الملاذ الذي توفره الأسواق الوطنية ليس أكثر من وهم: والسبيل الوحيد لزيادة قدرة الأسواق المالية على المقاومة وضمان ضآلة احتمالات تكرار هذا النوع من الأزمات يتلخص في بناء هيكل تنظيمي يتناسب مع الأسواق المتكاملة. ونحن الآن في احتياج إلى قواعد عالمية (أو على الأقل أوروبية)، كما نحتاج إلى هياكل مؤسسية قوية لفرض هذه القواعد ـ وهو المتطلب الذي لا يقتصر بالضرورة على الأسواق المالية.يتعين علينا أن نقاوم إغراء الانجراف وراء وهمٍ مفاده أن التدخل الأبوي من جانب الدولة يشكل الطريق إلى المستقبل. فمن المؤكد أن المجتمع بالكامل ـ وليس الشركات فقط ـ سوف يخسر إذا تحركنا في ذلك الاتجاه. أو كما قال العديد من المراقبين والمحللين: "إن الحكومة الكبيرة إلى الحد الذي يجعلها قادرة على منحك كل شيء تحتاج إليه قادرة أيضاً على سلبك كل ما تملك".

* رئيس مجلس إدارة ولجنة المجموعة التنفيذية لبنك دويتشه، ورئيس مجلس إدارة معهد التمويل

الدولي (IIF).خاص بـ"الغد" بالتنسيق مع بروجيكت سنديكيت