إيران بين الثورة والدولة

إحراق السفارة السعودية في طهران سقوطٌ سياسيّ ودبلوماسي وحضاري. وإحراقها من قِبَل مواطنين على مرأىً من عين السلطات الرسمية وسمعها، دليلٌ على أن إيران ما تزال تراوح بين الدولة والثورة. وغضبة إيران على إعدام "شيعيّ" سعودي الجنسية لا تربطه بايران أيّ رابطة قانونية، دليلٌ على أن "إيران الثورة" ترى في الشيعة شعباً لها، وإن اختلفت أعراقهم وجنسياتهم، ولهذا فهي لا تُصدّر ثورتها -كما يقال- بل كأنها تُقيم سياساتها الخارجية باعتبار أن لها حقا قائما في التدخل، والدفاع عن الشيعة في أي دولة باعتبارهم أتباعها.اضافة اعلان
في المقابل، فإنني لا أفهمُ إعدام شخص لأنه يخطب في الناس معارضاً الحكومة أو حتى الدولة؛ طالما أن معارضته سلمية، فأنا شخصياً وكُثرٌ مثلي لم نسمع بالسعودي الشيعي الذي أعدم قبل إعدامه، خاصة أن توقيت الإعدام سيكون له تأثيرٌ سلبيٌّ على تبعات حربي اليمن وسورية.
كل هذا "كوم" وحفلة الطائفية والتحشيد الطائفي التي فجّرها هذا الأمر "كوم" ثانٍ. فها هم مسلمو العالم ولا أقول إيران والسعودية فقط، يدخلون أفواجاً في هذا الزار الطائفي. وهم يُثبتون مرة أخرى أن المسلمين طوائف قبل أن يكونوا مسلمين؛ فهم أولاً شيعة أو سُنّة أو خوارج، ثم بعد ذلك إن بقي مُتّسع من الإيمان مسلمون. والمشهد بعيد عن حديث الرسول -عليه السلام- "اختلاف أُمّتي رحمة"، ذلك أن المشهد هو خلافٌ طائفي ونقمةٌ ممتدة منذ وفاة الرسول عليه السلام.
فهناك صيحاتٌ تدعو لغضبة "زينبية"، وبالمقابل فإن الفضائيات مُصطفة لتصنيف "الرافضة" بالكفر والزندقة. وهذا لعمري زارٌ للطائفية مقيت، ولن يؤدي إلا لإضعاف الأمة والدول العربية قبل إيران. وسيكون هذا الزار الطائفي دعوة مفتوحة لتحالفات وتدخلات دولية، أعدكم أنها لن تكون لصالح شعوب المنطقة.
لقد انشغل الشيعة في تكفير السنة، وكذلك فعل بالمثل السنة. وظنّي أن جوهر الطائفية ليس قراراً دينياً أو عقائدياً بقدر ما هو تحشيدٌ طائفيٌّ عصبي، وهو سلوك شعوب ما قَبْل المجتمع المدني الحضاري والدولة المدنية القائمة على سيادة القانون.
أرى أن فرض الحرية العقائدية بالقانون أصبح مطلباً عَقَدياً إسلامياً لإنقاذ الإسلام من التشظّي وإبعاده عن الاستغلال من قِبَل السياسة والنزاع السياسي، وذلك للخروج من مفهوم الأمة الطائفة إلى مفهوم الفرد المواطن؛ والخروج من دولة العمائم إلى دولة القانون، وإلا سيعيد التاريخ نفسه وسنظل وأحفادنا وقوداً للطائفية، وسيظل التخلف يُنادي هذه الشعوب ويقول هل من مزيد؟!
لقد آن الأوان لأن يخرج تيارٌ شعبيٌّ يؤمن بالمواطنة أولاً، ليسقط الطائفية، ويعلي التنافس والتعاون الإيجابي بين الدول. فهل يأتي من أقصى هذا التاريخ الطائفي الدموي شخص ينهض بعمل ثورة تاريخية لوقف الطبل والزمر الطائفيين، ويعلن عصر الفرد الحر؟! إذ الدين للضمير، والوطن لحماية حُريات الفرد وحقوقه في ظل تكافؤ الفرص والعدالة بين الناس.
اليوم نستدعي روح واصل بن عطاء، مؤسس المعتزلة؛ ليس للاعتزال، بل لإعلاء العقل على النقل، ورفض التحشيد الطائفي السياسي البغيض، والعمل المباشر محلياً وعربياً ودولياً للدعوة للدولة المدنية، باعتبارها الحل الأمثل لوقف الطائفية على أساس من حرية العقيدة وحرية التّسنن والتشيّع السلمي في ظل دول القانون، وإلا فإن غداً لناظره بغيض.