إيقاظ الفطرة

د. عصر محمد النصر

من نعمة الله تعالى على الإنسان، ما أودع فيه من فطرة تدله على الخير وتحثه عليه؛ حيث جعلها ركيزة ينطلق منها الإنسان. فهي مجمع المحاسن؛ فيها حب الخير وإرادته، وحب الحياء وتطلبه، وهكذا سائر خصال الخير وعوامل البقاء. ومن أعظم ودائعها، الإقرار بتوحيد الله سبحانه وتعالى وتفرده في الخلق والأمر. ولذلك، كانت محل التذكير والمعينة على الإجابة وتقبل الحق.اضافة اعلان
يمثل حفظ الفطرة، بما تقدم لها من خصائص ومنها ركائز الخير والحق، حفظا لإنسانية الإنسان الذي كرمه الله على سائر خلقه: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء، الآية 70). فحفظ الفطرة حفظ للخير وحث عليه، وتقويم للسلوك؛ وهو حفظ للمجتمع ولعموم أفراده وتنوع علاقاته. وعلى قدر اختلال الفطرة واضطراب سلوكها وضعف علومها، يضعف الإنسان، ومن ورائه المجتمع وتختل نظمه ومسيرة أفراده. ومن هنا، كانت الفطرة تحتاج إلى التذكير الدائم؛ فقد يطرأ عليها من الأحوال ويكتنفها من الظروف ما يضعف قوتها ويبدد نورها، حتى يصبح معروفُها منكرا ومنكرُها معروفا، فترى الحق على غير صورته.
ومن أعظم ما يضعف الفطرة، انتشار الجهل وقلة العلم. فإن جريان الزمان وتداول الأيام يذهبان بالحقائق ولا بد؛ فما وجد الشرك في دنيا الناس إلا عندما جرى الزمان بقلة العلم وذهب أهله. فالجهل أهم أسباب انتكاس الفطر وتغير حالها. ويزداد هذا الأثر عندما تتبدل المفاهيم وتتغير الحقائق، وتسمى الأشياء بغير اسمها؛ كتسمية الخمر –مثلا- بالمشروب الروحي، والغناء بغذاء الروح، فيما يسمى الربا بالفوائد. وكل ذلك يخرج مخرج الحرية الفردية، على اعتبار أنها قيمة مقدسة ومعيار ضابط للسلوك، ونوع من الحق الذي يتمتع به الفرد، من غير مراعاة لعلاقة الفرد مع نفسه وربه سبحانه، وعلاقته مع مجتمعه، ومن غير مراعاة للشرع الحاكم المنظم لشؤون الناس والمهيمن عليهم. والإنسان في هذا النوع من الحرية هو أشبه بالحالة الذهنية المنقطعة عن كل متعلقات الواقع.
ومن أسباب تغير الفطرة، غفلة الإنسان عن عدوه وترك الحذر منه: "قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ" (الأعراف، الآيتان 16 و17). فالغفلة عن الشر وأهله، سبب للوقوع فيه. وأسعد الناس من عرف الشر لتوقيه، وعلم الحق ليعمل به. وهذا مبدأ عظيم، يستصحبه الإنسان في كل شأن له في الحياة الدنيا. وقد يغفل عنه الإنسان في حال غلبة الهوى؛ فهو أكبر معين على الانصراف عن الطاعة وطلب الحق والعمل به: "... وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ..." (ص، الآية 26)، إذ تنتكس معالم الخير في النفس، وتضعف مبادئ الفطرة، ويصبح الحق خصما بعد أن كان مطلبا تسعى إليه النفس. وكلما ازداد اتباع الهوى، ضعفت البصيرة وانحرفت الفطرة وزال أثرها.
لما كان الإنسان مدنيا الطبع، مجبولا على التعايش مع غيره؛ وهو بذلك يطلب مصلحة أو يدفع مضرَّة، فقد كان النسيج المجتمعي، بمختلف مراتبه، من أعظم المؤثرات عليه كفرد وجزءا منه، قابلا للتأثر والتأثير. قال تعالى في بيان أثر المجتمع في الصد عن الحق: "وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ " (النمل، الآية 43). فتفرد الإنسان عن بيئته بأمر يخالفهم فيه، هو من أصعب الأمور: "بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ" (الزخرف، الآية 22). ومن هنا عظم أمر الفساد المنتشر الذي يعتاده الناس وتنشأ عليه المجتمعات، لما في إزالته من صعوبة. ولذلك عظم الشرع أمر المجتمع، واتخذ لحفظه تدابير تبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم عموم الناس. وعليه، فإن أهم ما يوقظ الفطرة ويصحح مسار الإنسان ومن ورائه الأسرة والمجتمع، اتباع الشرع والعمل به، إذ جبلت النفس على ذلك: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" (البخاري)؛ من إقرار بالله تعالى إلهاً وخالقا، والتوجه إليه رضا ومحبة، وتقبل الشرع والرضا به، فهو شرع موافق للنفس ومنسجم مع متطلباتها، فلا يكون صلاحها وبقاؤها إلا به. وهو الشرع الخاتم الذي به تسعد الناس: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء، الآية 107)؛ به رحم الله أهل الأرض، وجعل من تطبيق شرعه صلاحا للزمان والمكان، وجعله سهل التطبيق قريب الوصول لا يختص بجنس دون آخر، ولا بقوم دون آخرين: "وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" (البخاري)، وباب ذلك نشر العلم وتعظيم الشرع في نفوس الناس، وحثهم على العمل به.
وعلى قدر عمل الإنسان بهذا الدين والالتزام به، تصح الفطرة وتصرف عنها المفسدات. ولا يتحقق مثل هذا بعد التقوى من الفرد، إلا بانتظام أمر الناس تحت حكم الشرع والخضوع لسلطانه. وقد توقظ الفطرة اضطرارا؛ عند حلول المصائب والمحن، فتنفض عنها غبار الأيام وسراب الآمال الملهيات: "وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ..." (الزمر، الآية 8). وإنما تغتال الفطرة عندما تفسر المصائب والكوارث بتفسيرات تخرجها عن إرادة الله وقدرته، وتجعلها أسبابا بلا مسبب، وبذلك تعظم البلية. وتخرج النفس من مثل هذه الغفلة إذا تفكرت بخلق الله وما فيه من آيات عظيمة، يبعثها النظر فيها على إدراك حسن التدبير ودقة الصنعة، وبعد ذلك إدراك عجزها وضعفها وحاجتها إلى خالقها وافتقارها إليه.