"ابني الشهيد الله يحماه"

غنت فرقة "العاشقين" يوما: "شوارع المخيم تغص بالصور، شهيدنا تكلم فأنطق الحجر، في كل بيت عرس ودمعتان... ميعادنا في القدس مهما نعاني". فما معنى أن تغصّ شوارعٌ بالصور؟! هل أنّها لا تحتمل المزيد، وأنّ صورة الشهيد تُلصق فوق صورة شهيد، فيختفي شهيد خلف شهيد؟! كم متعبٌ هذا الوضع!اضافة اعلان
أمُر من جانب مجمع فلسطين الطبي، في رام الله، حيث ينقل الجرحى غالبا، فيشفون أو يستشهدون، ويخرجون مع "وردة جريح الثورة"، أو يخرجون مُلفّعين بإكليل ورد الشهداء. أكون سائراً في شارع رُكَب، قرب محل زهور "الوردة الحمراء"، فأسمع التكبيرات والنداء للشهيد أن يرتاح، وأن بعده من سيواصل الكفاح: "يا شهيد ارتاح ارتاح.. واحنا نواصل كفاح". وأتخيل أمه، أجمل الأمهات، لا ترتاح. وأمر بجانب المجمع في يوم لا شهيد فيه، فتختلط صور الشهداء والجنازات في مخيلتي؛ تقفز أمام عيني قصص الجنازات متداخلة، ولا أتذكر أسماء الشهداء إلا بعد تمعّن. وأمر من حاجز زعترة، على الطريق إلى نابلس وقلقيلية، فتمر بمخيلتي أسماء فدائيين جاؤوا يوماً عبر النهر واستشهدوا في مكان ليس بعيدا، ثم تخطر ببالي قصة الشهداء الذين بات الجنود الإسرائيليون يقتلونهم هناك بتواتر؛ فلا تكاد قصة شهيد تختفي حتى تتكرر قصة شبيهة. يدّعي الجنود على الحاجز ذاته أن الشاب كان ينوي تنفيذ عملية عسكرية ومعه سلاح ما، ثم يقتل، وسط دهشة الناس والأهل، لأن ذلك الشخص يكون في طريق اعتيادية لقضاء أمر ما، مثل تاجر "الموبايلات" علاء عودة، الذي استشهد وهو يحمل أجهزة يتاجر بها.
صارت قصص الشهداء تتكرر، وشبكات التواصل الاجتماعي، من "فيسبوك" و"يوتيوب"، تغص بالصور. لكن مع كل شهيد جديد يتذكر أم وأب ابنهم الشهيد، ويسأل أصدقاء الشهيد، هل سأكون التالي؟!
زاد الألم، حتى كتبت سحر خليفة في رواية "باب الساحة"، نهاية الثمانينيات، نصاً صعباً للغاية على لسان إنسانة مكلومة. ومما يمكنني نقله هنا: "أنا بدي أخي ومش فلسطين". وتقول "أخدتِ الأم وأخدتِ الأب وأخدتِ الأخ والأرض والعرض وما خلّيتِ حاجة يا فلسطين".
في نهاية رواية سحر، تتحدى تلك الإنسانة من حولها أن تتقن مقاومة المحتل أفضل منهم.
صور الشهداء تتراكم، ولكن إذا اقتربت داخل المشاهد ترى ما لم تتخيله يوماً وما لا يتكرر.
قد ترى أمٌّ شهيداً وجريحاً، وترى دمه وهو نازف، لكن هل خطر ببالنا، يوماً، أن نشاهد أماً تراقب ما يحدث داخل جسم ابنها وهو يستشهد؟! وأن تعرف ماذا كانت علاقة أحشاء ابنها ببعضها؟
عندما استشهد ليث، ابن زميلي في الجامعة، مساعد عميد شؤون الطلبة فضل الخالدي، صدمنا كما نصدم عند كل شهيد. صَدَمتنا صور جمال يفاعته وإقباله على الحياة حتى الاستشهاد، وأنّه كان دائماً يضحك ويغني، ويسأل أمه ما رأيك أريد أن أتعلم عزف العود، فتثني أمّه على الخيار. ويحلم بالعودة إلى عنابة في الرملة، فيواظب على ترك بيت العائلة في قرية جفنا الجميلة، ليذهب لمخيم الجلزون القريب. 
في يوم استشهاده استحم، وهو يحب الاستحمام كل يوم، وأكل الفلافل الذي طلبه منذ اليوم السابق، وأغضبته مشاهد الرضيع الحريق علي دوابشة، وسمع مع أخيه أغنية ميس شلش "ودعتك يما وما أصعب رحيلك"، قبل أن يذهب للمواجهة بالحجر مع المحتل.
تعمل أمّ ليث ممرضة في مجمع فلسطين الطبي، تدخل غرفة العمليات، وتشاهد الأطباء وماذا يفعلون مع ابنها. فتصرخ: "بتشتغلوا عالكبد؟!.. إصابة ابني بالكبد؟!". فأخرجوها. رأت عشر وحدات دم تدخل، ثم عشرا أخرى، حتى صارت ستينا، وأخبرها واحد من زملائها الذين يخرجون مرعوبين عن اسم الشريان المصاب، وتخبرنا أنّه الشريان "الذي يوصل كل الدم للقلب".
تروي القصة لإحدى محطات التلفزة، وقد أصرّت أن يأتي جثمانه قبل دفنه لتُسجّيه على ذات سريره، تحت ملصق الآية القرآنية، وتقول ساهمةً: "ودّعتك يُمّا وما أصعب رحيلك". وتروي كيف أخرجوه من غرفة العمليات شهيداً، بعد ثماني ساعات. وتخبرنا، كأنها تقول إنّه حيّ يرزق: "لما شفته طالع، يا حبيب ماما، كان حلو حلو، ما شالله عليه، يا حبيب إمه، الله يحماه".