"اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة"

د. محمد خازر المجالي

في سورة سُميت بالعنكبوت، افتتحت بسنة الله تعالى في فتنة الناس وابتلائهم، واستغنائه سبحانه عن خلقه، وجاء فيها قصص أنبياء تصدوا للفساد على اختلاف أنواعه، فكانت قصة نوح باختصار، وهذا الموضع الوحيد الذي بين الله فيه مدة لبثه في قومه: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ" (العنكبوت، الآية 14). وذكر تعالى قصة إبراهيم مع قومه عبدة الأوثان، في حوارات صريحة في نفي أن يكون الإله مخلوقا محتاجا. وقصة لوط مع قومه الذين سلكوا سبيل الفاحشة. وقصة شعيب في حوار مختصر مع قومه ليتركوا الفساد، وكانوا تميزوا بالفساد المالي. وذكر الله بعض الأقوام المكذبة ذكرا، وهي عاد وثمود. وأشخاصا من العتاة، فذكر قارون وفرعون وهامان، وكلهم أخذهم الله بذنوبهم: "فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (العنكبوت، الآية 40).اضافة اعلان
حاشاه سبحانه أن يظلم؛ فكل منا يحاسَب على عمله وما قدمته يداه، مع أنه تعالى يعاملنا بالإحسان والفضل لا بمطلق العدل، حين يجعل الحسنة بعشر أمثالها، بينما السيئة بمثلها، وحين يعفو عن كثير: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" (الشورى، الآية 30)؛ فثقة المسلم بربه ينبغي أن تكون عالية عميقة، فهو الإله الخالق الرازق المعبود بحق، ولا معبود سواه: "أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" (النحل، الآية 17).
بعد تلك الآيات المتحدثة عن الأقوام المكذبة والفساد الذي وقعوا فيه، جاء ذكر العنكبوت في معرض الحديث عن الولاء حين يضعه الإنسان في غير موضعه، فقال تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت، الآية 41)، فملاذهم وناصرهم ومولاهم لا يملك شيئا، وإن بدا شأنه عظيما في الظاهر، فحقيقته أنه أوهن من بيت العنكبوت، ماديا ومعنويا.
هنا لا بد من الزاد الحقيقي الذي به نسمو وننجو ونثق بطريقنا، فالله تعالى لم يترك عباده بلا منهج. إذ رغم وجود سُنّة الابتلاء، إلا أنه يعين عباده على تجاوزها بيقينهم به تعالى وأخذهم بالأسباب؛ فالصبر مطلوب، ومعه الوعي والفهم. وكل ذلك مرتكز على الإيمان الصادق الذي لا يتزعزع أبدا، والتسليم الإيجابي لله تعالى فيما قضى وقدّر. فينطلق الإنسان متوكلا على الله واثقا به، في دنيا هي ممر إلى آخرة باقية، إما نعيم وإما جحيم.
وفي سبيل ذلك يأتي قول الله تعالى: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" (العنكبوت، الآية 45). والعجيب أن الآيات بعدها حفلت بالحديث عن القرآن، فقال الله تعالى: "وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ..." (العنكبوت، الآية 47)، "بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ" (العنكبوت، الآية 49)، "وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ" (العنكبوت، الآية 50) وغيرها.
فلا نبالغ إن قلنا إن القرآن منجاة، حين يكون زادَ المؤمن، يتلوه ويتدبره ويتّبعه. هو كلام الله تعالى المعجز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فالآية وإن تحدثت عن التلاوة، فإن المطلوب مع التلاوة التدبر. وقد حث الله عليه في أربع آيات في القرآن منها: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد، الآية 24). فالقرآن منهج متكامل، وزاد فكري وروحي ومعرفي عام، حُقّ للمسلمين أن يُقبلوا عليه ولا يهجروه، بل ينظّم كل منّا وقتَه ليكون للقرآن ورد يومي، ولن يأخذ من وقت أحدنا الشيء الكثير، ولنا بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، والقرآن شافع لأصحابه يوم القيامة.
والأمر الآخر في الآية هو إقام الصلاة؛ فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر حين يكون أحدنا محافظا على صلاته حقا. وذكر الفحشاء هنا لتدل على غالب الذنوب، وقد ذكرت السورة شيئا منها. فالصلاة الحقيقية التي يراعي فيها صاحبها حسن الصلة بالله وخشيته وخشوع قلبه وجوارحه له سبحانه، يستشعر معيته ويناجيه ويدعوه، هو حينئذ أبعد الناس عما يغضب وجه الله، بل هو متفائل إيجابي معطاء، لا منزو ولا معتزل ولا متجبر أو متكبر.
ومن العجيب أن يأتي في هذه السورة المكية حديث عن آداب الحوار مع أهل الكتاب: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت، الآية 46)، وهذا قمة الرقي في المنهج الإسلامي. فالمجادلة بالحسنى، من أجل الوصول إلى نتيجة إيجابية، وإلا فالإقلاع عن الجدال. وهنا تذكيرهم بما أنزل من عند الله، فهو الحقيق بأن يعبد ويفرد بالعبادة، وله وحده الخضوع والاستسلام.
هذا الدين متميز في تنظيمه شؤون المسلم كلها؛ علاقته بالله تعالى وبغيره من المسلمين وغير المسلمين، في شأنه المادي والروحي، الدنيوي والأخروي. وهذا القرآن هو الصراط المستقيم، هو النور والهدى والروح والفرقان، وهو زاد المسلم في دنياه ليحيى كريما عزيزا واثقا بنفسه، وينتقل إلى دار آخرة وقد استعد لها لتستعد له. وفي هذه السورة يقول الله تعالى: "وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت، الآية 64)، والحيوان صيغة مبالغة من الحياة، فهي الحياة الحقيقية التي ينبغي أن نسعى لها، ونحياها كما يحب ربنا ويرضى.