احتجاجات العراق في فضاء دولتي


لم تكن الاحتجاجات الأخيرة في العراق، التي اندلعت في تموز (يوليو) الماضي، وما تزال مستمرة إلى هذه اللحظة، أول حركة احتجاجية في عراق ما بعد 2003، الذي أُسقط نظام الاستبداد فيه بيد قوة احتلال عسكرية أجنبية، بل إنها الموجة الأحدث من موجات عدة شهدتها البلاد، في الأقل منذ أواسط 2009. ويمكن لتحليل هذه الموجة أن يزودنا بمثال مختبري عن بنية ومصادر الحركة الاحتجاجية في عراق ما بعد الاستبداد، أو مصادر هذه الحركة في بلد على غرار العراق، من حيث ثقافته السياسية، ونظامه الاقتصادي، والعلاقة بين الفرد والدولة.اضافة اعلان
وفي الحقيقة، يكشف استقراء موجات الاحتجاج في العراق عن حزمة من الحقائق الثابتة، التي يمكن فهم الحركة الحالية من خلالها.
وتحديدا، ثمة ثلاثة عوامل متداخلة، تشكل جوهر هذه الاحتجاجات:
- إن حركة الاحتجاج تجمع داخلها أكثرَ من مكوِّن. ولا أعني بالمكونات، هنا، تنظيمات حزبية، بل أقصد أن الاحتجاج هو فضاء تتجمع داخله أكثرُ من غاية، كل غاية يصوغها أو يقودها مكون سياسي، أو اجتماعي، أو ثقافي مختلف. وإذا كان هذا يصدق على سائر حركات الاحتجاج في العالم، فإن الثابت، في حالة العراق، هو أن المكون الأول لحركة الاحتجاج هو المكون المطلبي.
كانت الشرارة الأولى لحركة الاحتجاج الأخيرة هي الاعتصامات والمظاهرات التي انطلقت في مدينة البصرة، أواسط تموز (يوليو) الماضي، احتجاجا على انقطاع الكهرباء وتردي الخدمات، ثم انتشرت في سائر مدن الجنوب. وقد سقط في الاعتصام أمام مبنى محافظة البصرة، يوم 16 تموز (يوليو)، قتيل، هو شاب اسمه "منتظر الحلفي"، أطلق عليه رفاقُه من ناشطي الحركة الاحتجاجية لقب "البوعزيزي العراق".
أما في العاصمة بغداد، فكان أول الاحتجاجات هو إضراب عمال سكك الحديد، يوم 29 تموز (يوليو)، الذين قطعوا عددا من الطرق الرئيسة في المدينة، احتجاجا على تأخر الدولة في دفع رواتبهم، ثم انطلقت المظاهرة الأولى في ساحة التحرير، يوم 31 تموز (يوليو)، امتدادا لمظاهرات الجنوب الاحتجاجية على عجز الدولة عن توفير الكميات المطلوبة من الكهرباء.
- إن هذا الاحتجاج المطلبي المتعلق بالخدمات، لم ينجح -كما علمتنا التجارب الاحتجاجية السابقة- في التحول إلى مطالب سياسية محددة، أو -على نحو أكثر دقة- لم ينجح في التحول إلى حركة احتجاج واسعة ومنظمة، تدور حول مطالب سياسية محددة.
وكما في سائر الاحتجاجات، ضمّت هذه الحركةُ مجموعة من المثقفين والناشطين المدنيين، وبعض الناشطين اليساريين والليبراليين، الذين طوّروا الاحتجاج على تأخر الرواتب وانقطاع الكهرباء إلى مطالب تخص الفساد وفشل الدولة وترهلها.
وفي العادة، تنجح حركاتُ الاحتجاج في إحداث تغيير، أو قطع سياسي، في حال نجح المكوِّنُ السياسي للحركة، الذي ينادي عادة بالحريات السياسية والديمقراطية وتداول السلطة، بدمج المكون المطلبي داخله. ولعل نجاح ثورتي تونس ومصر إنما تحقق بسبب النجاح في دمج هذين المكونين. فالثورتان، اللتان انطلقتا من دوافع مطلبية محددة (الكرامة، الخبز،..)، نجح المكون السياسي فيهما في دمج هذه المطالب وتحويلها إلى مطالب سياسية بالحريات والديمقراطية. وهذا ما لم ينجح به ناشطو المكوِّن السياسي في الحركة الاحتجاجية في العراق، في تجاربها السابقة، فمع انحسار المكون المطلبي، لم يستطع المكونُ السياسي الثباتَ وإدامة الحركة.
وفي تصوري، أن التمايز بين هذين المكونين، وطبيعة العلاقة بينهما، وديناميكية كل منهما، ستتحكم بمسار الحركة الاحتجاجية القائمة في البلاد.
- وعلى نحو عام، يمكن القول إن الحركة الاحتجاجية في العراق (وهذه هي الخلاصة الأكثر أهمية التي نستنتجها من دراسة تجارب هذه الحركة وسوابقها)، تنهض في حالات ضعف الدولة عن أداء مهماتها، أو -بتعبير أكثر نظرية- ضعف رعويتها وحضانتها للمجتمع.
وهذا يعني أن جوهر الحركة الاحتجاجية لا يرتبط بأزمة النظام السياسي، أو الابتعاد عن أركان الممارسة الديمقراطية.
الحركةُ الاحتجاجية هي محاولة لاستعادة الدولة، أشبه بصرخة فقدان الأب.. واحدة من تجليات الدولتية، ثقافةً ونزعة سياسية. وما إن تستعيد الدولةُ قدراتها (حتى لو في المجال المطلبي الخدماتي، أو المالي)، حتى تضعف الحركةُ الاحتجاجية، وتخمد إمكانية تحويلها إلى مطالب إصلاح ديمقراطي.