"احترامي للحرامي"

بنية سياسية واجتماعية تتحلل وما يزال القادم في حكم الغيب، يصاحب ذلك بنية ثقافية ايضا تتحلل، ولكن من الواضح ان بنية ثقافية جديدة تتشكل تبدو اهم ملامحها في قوة المكاشفة والسؤال والإدانة، وعنوانها الماثل اليوم والاكثر وضوحا الثقافة الجديدة التي تتشكل حول الفساد والفاسدين، حيث  تتحلل ثقافة صبغت جيلا بأكمله تعامل مع رموز أدارت البلاد وتحكمت بمصيرها، وهي ثقافة مزيفة كانت قادرة على قلب الحقائق بين ليلة وضحاها وتملك ألاعيب السحرة بالألوان وخفة اليد، ثقافة ألبست اللصوص وقراصنة الأزمات لبوس النزاهة والعفة وجعلت منهم رموزا يهتف لهم، وتدبج لهم المدائح والغزل السياسي والاجتماعي.اضافة اعلان
  لقد غرقت البلاد لأكثر من عقدين في ثقافة ساهمت بها المؤسسات العامة والخاصة ووسائل الإعلام الى جانب عملية متراكمة من إعادة تدوير التقاليد وحتى الأعراف الاجتماعية  لمصلحة حماية الفساد والفاسدين، وذلك بانتاج ثقافة زائفة مملوءة بالكذب والتزلف والانتهازية المريضة بدأت بأساليب متلونة وابتكارية للتسترعلى الفساد والفاسدين، ثم تحولت هذه الثقافة الى ترميز صناع الفساد، بل وصل الامر الى تصعيدهم في سلالم الدولة والمجتمع وإعادة تصنيعهم في الصفوف الأمامية، بينما فعلت وسائل إعلام فاسدة ومرتشية فعلها في تلميعهم. ثقافة مريضة دوخت البلاد ولعبت بأعصاب جيل بأكمله، ثقافة أصابت المجتمع بعلل وهدت الدولة بأمراض مزمنة.
 ثقافة تذكرنا بالقصيدة الرائعة للشاعر عبدالرحمن بن مساعد التي حولتها الفنانة المبدعة آمال ماهر الى مغناة جميلة تدين رموزا من صفيح "احترامي للحرامي صاحب المجد العصامي، صبرمع حنكة وحيطة، بتدأ بسرقة بسيطة، وبعدها سرقة بسيطة، وبعدها تعدى محيطه وصار في الصف الامامي، احترامي للحرامي ... صاحب النفس العفيفة، صاحب اليد النظيفة، جاب هذه الثروة المخيفة من معاشه في الوظيفة، وصار في الصف الامامي..احترامي للحرامي".
السؤال الذي يجب أن لا نخشاه وأن نطرحه بقوة؛ هل نحن أمام إدانة شاملة لحقبة بأكملها؟، قد لا يعجب ذلك كثيرين، وقد تجد من المبررات للقول هذا صحيح، هذه الحقبة شهدت إنجازات وحافظت على التماسك الداخلي وعبرت البلاد فيها ليالي الخوف والضنك التي عاشها المحيط الاقليمي، لكن هذا لا يعفي من إدانة الجرأة على الفساد والإفساد وعلى ثقافة فاسدة صبغت الحياة العامة وقلبت المعايير والقيم.
 ثقافة جديدة تتشكل اليوم تنزع تلك القداسة المزيفة عن رموز زائفة، والاحترام المسروق عن نخب سرقت مستقبل أجيال، فيما يبدو أن آخر دفاعات ثقافة التستر تتمسك فيما تبقى لها بالاختباء خلف الخوف على الاستثمار وعلى سمعة البلاد، الخوف على البلد ليس بالخوف من مسيرات تبدأ وتنتهي بأقل من ساعة، ولا ربط اقتصاد البلد بالخوف المفرط على باعة يوم الجمعة؛ أهم ملامح الثقافة الجديدة أنها ثقافة إدانة، قادرة على طرح السؤال والشك والبحث والتقصي، ثقافة لا تستسلم لأنصاف الحقائق، وغير قابة للاسترخاء على أنغام الإعلام المرتشي والضحك على ذقون الناس.
  أعود الى عبد الرحمن بن مساعد وهو يقول "احترامي للنقوص عن قوانين ونصوص، احترامي للفساد وأكل أموال العباد، والتحول في البلاد من عمومي للخصوصي، صار يحكي في الفضا عن نزاهة ما مضى، وكيف آمن بالقضاء وغير حقه ما ارتضى.. احترامي للحرامي"! لقد تعرفت على هذه المغناة الجميلة المؤلمة من ابنتي التي ستدخل العام القادم صفها الدراسي الاول، بالفعل ثمة ثقافة جديدة تتشكل.

[email protected]