اختلاق ماض للاستعمال والتوظيف (4-6)

حسني عايش الماضي القابل للاستعمال (Usable Past) او التوظيف هو وصف للأحداث التي يمكن تطويعها لتأدية غرض ما في الوقت الحاضر. ومع ان الذاكرات الجمعية لا تخلو تماماً من الدقة، إلا أنها ليست مرغمة على تمثيل الماضي بدقة بمقدار ما هي مضطرة لاختلاق – أو– على الأصح – لفبركة ماضٍ قابل للاستعمال. إنّ اختلاق ماض قابل للاستعمال هو المعيار الرئيس في الكتب المدرسية الاسرائيلية، وكذلك قدرتها على تطويعه في الوقت الحاضر... وبالذات لخلق جماعة متماسكة وهوية ضرورية منتمية إليها. ولهذا تم التضحية بالدقة والموضوعية. والدقة أو الموضوعية والماضي القابل للاستخدام أو التوظيف قد يسيران معاً وقد لا يسيران. وبمعنى آخر، فإن القوة الدافعة للذاكرة الجمعية/ العامة ليست دقة تمثيل الماضي، وإنما خدمة مصالح الحاضر والمستقبل. إن هذا يعني أن هدف الذاكرة الجمعية عرض صورة للماضي مبينة على ذاتية الحاضر، أي مستجدة منه. ومن ذلك – مثلاً – مقارنة طرد المزارعين [السوريين] من هضبة الجولان سنة 1967 الذي كشف عنه اخيراً، بطرد الفلسطينيين من اللّد والرملة سنة 1948، وكيف بنيت رواية سنة 1967 على رواية سنة 1948، أي ان السكان فروا ولم يطردوا. إنهم بالكتب المدرسية الاسرائيلية يرون أن الدور الرئيس للتربية والتعليم جعل تفضيلات الجماعة تفضيلات كل فرد فيها، وأعدائها أعداؤه. في إسرائيل – وكما في كل المجتمعات المتصارعة - وبالذات في الأمة اليهودية، تجد في الاثنية خليطاً من الناس من كل أنحاء العالم، قلما يجمع شيء واحد بينها. ولذلك لا تزال مسائل الهوية الجمعية والفردية تناقش عاطفياً وحتى بسخونة، وبصورة متكررة وبجدل مستمر حول: “من هو اليهودي”. وعليه فإن أحد أهداف الرواية الصهيونية الاسرائيلية، وفي كل مشروع أو مرحلة أو حالة منها خلق هوية متجانسة تشمل جميع الاثنينات اليهودية في اسرائيل. وهكذا كانت ولا تزال العبارة الأكثر شعبية عند الساسة الاسرائيليين هو: “أمة واحدة - قلب واحد”، “والعمل فيزيقياً / جغرافياً وروحياً على محو جميع آثار الحياة الفلسطينية الباقية على الأرض، وبحيث تبقى الذاكرتان الاسرائيلية واليهودية فيها”. لطالما وقفت السلطات الاسرائيلية حارساً ضد تعليم التاريخ الفلسطيني، او النكبة حتى في المدارس العربية الفلسطينية، المنع الذي تحول إلى قانون النكبة. القانون هذا يمنع التفجع الفلسطيني العام في يوم استقلال اسرائيل، أي التفجع العام في مناسبة انشاء دولة اسرائيل كدولة يهودية: إنه القانون الذي أقرّه الكنيست في 23 آذار سنة 2011 (Palestine Shoa) لأن حاجة الناس والأمم للتفجع والبكاء على الماضي محفورة في التقليد اليهودي [حائط المبكى] ومقصورة عليهم فلا يحقان لغيرهم. ترى السلطات الاسرائيلية وبالتالي السلطات التربوية، أن الاعتراف بالنكبة (1948) سيدمر اسرائيل كدولة يهودية، وسيوفر للفلسطينيين سبباً للتمرد والثورة. ليس للفلسطينيين في اسرائيل حصتهم النسبية من السكان، وحتى أي حصة على الإطلاق في الكتب، المحللة هنا وهي: كتب التاريخ، والجغرافيا، والتربية المدنية، ما عدا كونهم ظاهرة سلبية وبدائية تشكل عبئاً تنموياً أو تهديداً أمنياً وديموغرافياً. وفي كتب الجغرافيا يتحقق الميل إلى محو الحياة الفلسطينية من المشهد الاسرائيلي بحذف الحدود الدولية لإسرائيل من الخرائط، وبإظهار الضفة الغربية المسماة “يهوذا والسامرة” كجزء من اسرائيل، مع أنه لم يعلن حتى الوقت الحاضر رسمياً أنهما جزء منها، وبإظهار المستعمرات [المستوطنات] غير الشرعية فيها مثل أرائيل وألون شوفات على نحو مساوٍ لتل أبيب والقدس. وتحذف في الوقت نفسه المدن الفلسطينية وحتى المدن المختلطة داخل اسرائيل مثل اللّد وعكا والناصرة من الخرائط المدرسية. وهكذا ترسخ الكتب الاسرائيلية في أذهان طلبتها ان ارض اسرائيل هي المكان الوحيد الذي يمكن لمصير الأمة أن يتحقق فيه أو ينجز. ولهذا ركزت الصهيونية ومنذ البداية، على الهوية الجغرافية، وعلى بعث الامة اليهودية. تبرز جميع كتب الجغرافيا وعلى جميع الخرائط أرض اسرائيل الكبرى وحيث الدولة الاسرائيلية الآن ليست سوى جزء صغير مؤقت منها وتبرر ذلك بالاقتباسات التوراتية الخاصة بأرض الميعاد. كما تفخم كتب الجغرافيا الماضي “الخرافي” العظيم للعبرانيين، مخفية الحقيقة الجغرافية السياسة الحاضرة/ الراهنة لإسرائيل التي تبدو لواضعي المناهج الاسرائيلية ومؤلف الكتب المدرسية تبعة عرضية ناتجة عن الهدنة التي شلّت الزخم العسكري (سنة 1949).اضافة اعلان