ارتفاع خط "فقر النخب"

أهي مخجلة، أم محبطة، أم أكثر من ذلك، الحال التي بلغها المشهد المحلي من نقص في النخب، ونزوع نحو "البهرجة" على حساب العمق، والشواهد كثيرة، وبعضها يندى لها الجبين لشدة غرابتها.اضافة اعلان
الفقر لدينا لم يعد يقتصر على شريحة من المجتمع لا تملك دخلا مناسبا يساعدها على أن تبقى فوق خطه، بل الأشد خطورة، أننا بتنا نعاني من فقر النخب، وعلى مختلف الأصعدة، وربما ذلك ليس إلا انعكاسا لظروف موضوعية أوصلت الحالة العامة إلى هذه النتيجة.
أينما تبحث؛ سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، حزبيا وتشريعيا، تجد التراجع كبيرا، والوعي في حالة سبات، والأمل بتغيير الواقع يكاد يصل حد القنوط، إذ لا يمر يوم إلا وتبرز حالة أو سلوك يصدمنا من واقع هذه النخب على اختلاف اهتماماتها.
في المقابل، نكتشف أننا نجيد توزيع الألقاب مهنيا وأكاديميا وتراتبيا؛ معالي وعطوفة وسعادة وبيك، أما ألقاب دكتور ومهندس وخبير ومحلل، فحدث ولا حرج، وهي لم تعد تعني سوى قيمة اجتماعية وهمية صنعناها بالألقاب والمسميات الوهمية، من غير أن تمتلك القدرة على تشخيص الأمراض التي تفتك بمجتمعنا، ناهيك عن أنها لن تقدم حلا لأي مشكلة.
الأمثلة على الخراب كثيرة؛ فغالبا ما تسمع نائبا يهرف بما لا يعرف، أو خبيرا منفصلا عن الواقع والوجع، وليس ذلك إلا دلالة جهل وضعف للعلم والتعلم، ما يعكس حالة مجتمعية من فقر معرفي أيضا. وفي مقابل ذلك، تجد أن الكفاءات والخبرات الحقيقية، صارت تنأى بنفسها عن المشهد، تاركة المجال أمام "حَمَلة الألقاب الوهمية".
بصفتنا إعلاميين؛ لطالما سعينا للبحث عن خبراء ومختصين في القطاعات والتخصصات المختلفة، بدءا بالسياسية، وليس انتهاء بالاجتماعية، لكننا نصطدم بنتائج أقل ما يقال عنها إنها محبطة، كونها منفصلة عن الواقع، ولا تمتلك المهارات اللازمة لتقديم رؤيتها إزاء أي قضية، فهي عاجزة عن تمحيصها وتبيان الرأي الموضوعي فيها، رغم تقديسها التام لحرف (د.) الذي يسبق الأسماء.
بالنتيجة، صرنا نعاني من ندرة الكفاءات والخبرات المؤهلة، فلا الحكومات وأعضاؤها أهل للمسؤولية، ولا النواب قادرون على تقديم أداء مقنع للمجتمع يحسّن من صورة مؤسستهم في الأذهان، فيما خبراء الاقتصاد غارقون في النظريات، وعلماء الاجتماع ما يزالون خاضعين للرؤى النظرية، ولم يستطيعوا أن يهبطوا بها إلى أرض الواقع، ما كرّس نمطية سلبية عن هذه النخب في أذهان الناس.
مع تعمق الحالة وتراجع الأداء، وبسبب فقرنا الجديد، صرنا في حاجة ماسة إلى قرع الجرس، فقد وصل فقر النخب إلى مستويات مرتفعة، وزادت ندرة الخبرات عن الحدود المطمئنة، ما يحتاج إلى دراسة، ربما، لقياس حجم التغيير وأسبابه، وأيضا سبيل العلاج، إن كان ذلك ممكنا.
غير أن هناك أسبابا معروفة لدينا، وهي محل إجماع، تبدأ من قطاع التعليم والانهيار الحاصل فيه وفي مخرجاته الكارثية التي لا تؤسس الأرضية المعرفية، دعم ذلك الردة عن الديمقراطية بعد العام 1993 حينما تبدل قانون الصوت الواحد، وبدأت مخرجاته بالظهور شيئا فشيئا، إضافة إلى تدخلات فجة في نتائج الانتخابات لسنوات طويلة.
كل ما سبق جاء في ظل حياة حزبية هشة وضعيفة، نجمت عن سياسات رسمية حاربت الأحزاب، ما أنتج مجموعة من "الدكاكين الحزبية" التي لا تقنع غير العائلة التي أسست بعضها أو أعضائها، ومرضنا الحزبي هذا، يحتاج إلى فترة زمنية، قد تطول، لنتعافى من ضعفه، وأكثر من ذلك، نحتاج إرادة حقيقية لإصلاحه وتبديل واقعه.
هذا الواقع الأليم، ساهم في تعطيل المعرفة والعلم الحقيقيين، وأنتج "ألقابا" من غير أن تمتلك المعرفة، فرّخت وجودا لها في جميع مفاصل حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية والثقافية.
لكن الكارثة الكبرى، والتي تدخل في باب "شر البلية.."، أنه ومع كل هذا الخراب والانحدار، تجد من يقف في وجه تعديل المناهج وإصلاح التعليم العالي!!
.. والسؤال متى  نستيقظ؟