استدعاء جون لوك واليمينية والأصولية

يدين العالم اليوم لحركة التسامح والليبرالية السياسية التي ظهرت في القرن السابع عشر كمخرج من الحروب الدينية التي عصفت بأوروبا، وقد يكون ملفتا ويدعو للتأمل طويلا وعميقا أن الانقسام المسيحي الذي حدث في القرن الخامس عشر جاء في متواليات ظهور المطبعة وما أنشأته من حركة علمية وفكرية وتجارية أيضا، وتظهر اليوم حركة دينية ويمينية وأصولية واسعة في جميع أنحاء العالم مصاحبة للإنترنت.اضافة اعلان
لكن تشهد أوروبا والقارة الأميركية في الفترة الأخيرة صعودا كبيرا للحركات والجماعات اليمينية والتي تركز على البعد الديني في الهوية الأوروبية والأميركية، وقد أعلن رئيس الوزراء المجري (هنغاريا) فيكتور أوربان أن بلاده هي بوابة الدفاع عن الهوية المسيحية الأوروبية وأن على الأوروبيين العودة إلى هويتهم المسيحية حفاظا على أوروبا، وأصدرت ولاية بافاريا الألمانية قرارا (مرسوم الصليب) بتعليق الصليب في مداخل مؤسسات الولاية، وقال رئيس وزراء الولاية ماركوس زودر إن الصليب ليس فقط رمزا دينيا، لكنه يمثل الهوية التاريخية والثقافية لولاية بافاريا، وتشهد روسيا أزمة كبرى في المؤسسة الأرثوذكسية التي تواجه الانقسام العميق بسبب الانحياز الوطني الروسي للكنيسة في موسكو؛ ما أثار حفيظة الكنائس الأرثوذكسية خارج روسيا وخاصة في أوكرانيا، فقد سلك بوتين سياسة تمزج بين الوطنية والأرثوذكسية، بل وسعى في شرعية عالمية مستمدة من الكنيسة الأرثوذكسية، وأن يكون الصراع والتنافس مع الولايات المتحدة ذا طابع أيديولوجي ديني وثقافي.
يدعو جون لوك (1632 – 1704) مؤلف كتاب الحكم المدني والذي يعتبر مؤسسا للفكر الليبرالي وملهم الثورة البريطانية (1688) والثورة الأميركية (1776) إلى وقف الاضطهاد باسم الدين، وألا يفرض على الناس شيء باسم الولاء للدين، ولأجل ذلك يجب التمييز بين الحكم المدني والدين، فالدولة كما يقول جون لوك مجتمع من البشر يتشكل بهدف توفير الخيرات المدنية والحفاظ عليها، وتنميتها، ويعني بالخيرات المدنية الحياة والحرية والصحة وراحة الجسم وامتلاك الأشياء والأموال والأراضي والبيوت والأثاث..،
وفي ذلك يضع لوك مجموعة من القواعد والاعتبارات يراها ضرورية لأجل الحفاظ على الخيرات المدنية، ومنها أن خلاص النفوس ليس من شأن الحاكم أو أي إنسان آخر، فالحاكم ليس مفوضا من الله لخلاص نفوس البشر، ولم يفوض الله أحدا من الناس بذلك، وليس في إمكان أي إنسان حتى لو أراد أن يكيف إيمانه طبقا لأوامر إنسان آخر، لأن جوهر الدين الحق وقوته يكمنان في اقتناع العقل اقتناعا جوانيا شاملا، وأي شيء خلاف ذلك لا يرضى عنه الله.
إن الإنسان لا يولد ملتزما بدين أو طائفة أو مذهب، ولكنه يختار طواعية ما يؤمن به ويعتقد أنه صواب، ولا يحق لمذهب أو دين أن يلزم أحدا بالبقاء فيه، ولا يحق لأحد أن يكره أحدا بسبب دينه أو مذهبه، ولا يحوز حرمان أحد من حقوقه أو حريته أو أملاكه بسبب مذهبه أو دينه أو بسبب تغييره. وتأسيسا على ذلك فإنه لا حق لأفراد أو دولة أو مؤسسة دينية أن تعتدي على أحد أو تحرم أحدا من حقوقه وحرياته لأسباب دينية، ولا يحق لأحد أن يدعي حقا أو تفويضا إلهيا. ولا يجوز بطبيعة الحال أن يتدخل أحد سواء كان حاكما سياسيا أو دينيا في الاعتقاد والعبادة والإيمان، ذلك شأن لا يمكن إجبار أحد عليه أو منعه منه.