استطلاعات الرأي ومشروع "الحوض المقدس"

تعتبر قضية القدس، والموقف الإسرائيلي منها أحد الأمثلة المتميزة لأي متخصص في الإحصاء واستطلاعات الرأي من حيث كيف يمكن التلاعب في الأرقام ودلالاتها  تماما كما أنّها مثال متميز لطلاب علوم السياسة في كيف تتغير المواقف السياسية وكيف يصبح ما كان يبدو مستحيلا "التنازل" اليوم مقبولا غدا.

اضافة اعلان

كان آخر استطلاعات الرأي التي تم نشرها بشأن القدس، هو استطلاع مركز "بيغن – السادات"، حيث نشرت وكالات الأنباء العالمية، قبل أيّام، أنّه بموجب الاستطلاع، يرفض 71% من الإسرائيليين "تنازلات" في القدس القديمة ومنطقة الحرم الشريف، ويتم تقديم هذه الأرقام بأنّها دلالة تشدد الإسرائيليين إزاء القدس. وواقع الأمر أنّ هذا الاستطلاع يشير لتراجعات في الموقف الإسرائيلي؛ أولها أنّ مسألة التركيز على منطقة القدس القديمة في الاستطلاع، تخفي في طياتها تغير الموقف الإسرائيلي من القدس الموسعة التي تشمل مناطق قد تصل في بعض الخرائط إلى 10% من الضفة الغربية أو أكثر. والواقع أن هناك اتجاها متزايدا في إسرائيل، للتركيز على القدس القديمة ومناطق محدودة ملاصقة بها (بما في ذلك مقبرة جبل الزيتون)، وذلك وفقا لرؤية توراتية، تزعم أنّ هذه المنطقة تسمى منطقة "الحوض المقدس"، وهي مكان القدس اليهودية التاريخية. ويسعى "مركز القدس لدراسات إسرائيل"، الذي لعب دورا مهما في صياغة المواقف التفاوضية الإسرائيلية من القدس، خصوصا في فترات الحكومات العماليّة لترويج هذا المفهوم، وقد قدّم في مطلع عام 2006 الى مؤتمر هرتزليا الإسرائيلي السنوي، ورقة بعنوان "حوض القدس التاريخي – تقرير وضع وبدائل للحل" ويدعو هذا المركز لنظام دولي خاص في هذا الحوض.

وقد أكد لي الباحث الفلسطيني، وخبير الخرائط والاستيطان في القدس، خليل التفكجي، والذي شارك سابقا في المفاوضات حول القدس، ويتابع العملية التفاوضية والمواقف الإسرائيلية عن قرب، مؤخرا، على هامش ندوة أقيمت في أبوظبي، مدى اتساع الاهتمام الإسرائيلي بفكرة "الحوض المقدس" باعتباره محور المطالبة الإسرائيلية، ومساحة هذا الحوض تزيد على الكيلومتر المربع الواحد قليلا.

ثاني التراجعات يتضح من أنّ الإعلام الإسرائيلي  يقدّم نسبة 71% باعتبارها نسبة كبيرة تعكس تشدد الإسرائيليين، مع أنّ هذه النسبة كانت ستبدو منخفضة جدا، في الثمانينيات والتسعينيات عندما كان حتى مجرد نقاش موضوع القدس مرفوضا، وكانت الغالبية العظمى ترفض أي مساومة حول القدس الشرقية. فهذه النسبة أقل بوضوح من النسب التي أظهرها استطلاع رأي قبل عامين، "مركز القدس لدراسات القدس"، حيث أن 3.2% وافقوا آنذاك على "تنازلات" بشأن الحي اليهودي  وحائط المبكى، و5.4% يوافقون على "تنازل" بشأن الحي اليهودي وحده.

والواقع أنّ استطلاعات الرأي بدأت تصمم منذ بدايات التسعينيات، بما يؤدي لتسويق فكرة التراجع عن ضم القدس الشرقية كاملة، فمثلا تم عام 1993 إجراء استطلاع لمصلحة وزارة الخارجية الأمريكية، وتم صياغة السؤال كما يلي: "هل أنت مستعد للتخلي عن أحياء القدس الشرقية العربية، مقابل السلام؟"، وآنذاك لم يوافق سوى 35% على ذلك، ولكن هذه النسبة كانت بمقاييس ذلك الوقت تعتبر عالية، ما جعل الباحث الأمريكي، وعضو مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، إيان لستيك، يعتبر تلك النسبة دلالة عدم وجود الإجماع المزعوم بين الإسرائيليين حول القدس. كذلك لم يوافق عام 1999، سوى 28% من الإسرائيليين، في استطلاع أجرته مؤسسة "مؤشر السلام" الإسرائيلية، على أن تصبح القدس الشرقية عاصمة للفلسطينيين لأجل تحقيق السلام، ولكن عندما سئل ذات الأشخاص حول أحياء القدس الشرقية العربية تحديدا، وإذا كان كانوا يصرون على اعتبارها جزءا من "القدس اليهودية"، لم يبد الإصرار على ذلك بالنسبة لمنطقة وادي الجوز سوى 30%، 32 % بالنسبة  للشيخ جراح، و42%  بالنسبة لشعفاط وراس العمود، وفقط 22% اعتبروا العيزرية وأبو ديس جزءا من القدس. واستمر الموقف الإسرائيلي بالتغير ففي عام 2005 قال 49% من الإسرائيليين، في استطلاع رأي أجرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" أنّهم يؤيدون تقسيم القدس، وفي عام 2006، أيد 54% في استطلاع رأي أجراه مركز "تزبيط للسلام" التقسيم. 

والسبب الرئيس في التراجع الإسرائيلي أنّ أكثر من ثلاثين سنة من احتلال القدس الشرقية، ومن السياسات العرقية العنصرية الإسرائيلية لم تنجح في تطبيع المدينة وتهويدها، وكانت المقاومة الفلسطينية، وخصوصا ما حدث في فترة انتفاضة عام 1987 نقطة تحول رئيسية فيما حدث، أثبتت أنّ الفرق بين القدس الغربية والشرقية هائل.

هناك تراجع إسرائيلي في موضوع القدس، ولكن ذلك لم يقابله تقدم عربي في الأداء السياسي وفي دعم سياسات الصمود والمواجهة ميدانيا وهناك نوع من الفراغ الحقيقي في المستوى القيادي في موضوع القدس، ففي مرحلة الراحل فيصل الحسيني كانت هناك جهود وبرامج ذات أثر، رغم العقبات أمامها ورغم خلافات بعض القيادات الفلسطينية معه آنذاك لأسباب مختلفة، أمّا الآن فيوجد فراغ كبير لأنّه حتى بالنسبة للمتخصصين المتابعين لموضوع القدس يصعب عليهم معرفة أسماء المكلفين بهذا الملف في الجانب الفلسطيني، وما هي نشاطاتهم، كما يستمر غياب البرنامج العربي والإسلامي الحقيقي بشأن القدس. وفي ظل تعثر المفاوضات الراهنة، وقصور منظمات وحركات المقاومة الفلسطينية وانشغالها في تنافسها الداخلي يصعب رؤية أي استفادة من تراجعات الإسرائيليين ورؤية أي مراكمة على ذلك، ومهما كان الفشل والتراجع الإسرائيليين في القدس، فإنّ هناك أمرا واقعا يتم تجسيده يوميا يؤدي لخنق المدينة والوجود الإسلامي - المسيحي فيها، خاصة أنّ التراجع العام لدى الإسرائيليين، يقابله تشدد لدى قطاعات معينة خصوصا اليهود الأصوليين الذين يسيطرون على المدينة حاليا، وتتضافر سياساتهم مع سياسات رسمية لخنق الوجود العربي في المدينة.

باحث أردني مقيم بالإمارات

[email protected]