استعادة الثورة الصناعية

ثمة عودة مكثفة لفهم المشهد الذي تشكل حول الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ربما لأجل استيعاب التحولات التي تجري اليوم حول الحاسوب أو المعلوماتية. فالحركات الإصلاحية، مثلا، هي على نحو ما من تداعيات الثورة الصناعية؛ فيما الأصولية السائدة اليوم هي من تداعيات المعلوماتية.اضافة اعلان
يقدم هوبز باوم في سلسلة كتبه الرائعة: "عصر الثورة"، و"عصر رأس المال"، و"عصر الإمبراطورية"، و"عصر التطرفات"، مشهداً شاملاً يحلل فيه التداعيات والتحولات الكبرى التي جرت في العالم، مرافقة للثورة الصناعية التي ترمز إليها "الآلة البخارية". فقد ظهرت واتسعت الطبقة الوسطى (ظهر المصطلح للمرة الأولى العام 1812). يقول باوم: "اجتمعت العناية الإلهية والعلم والتاريخ لتجعل الأرض لقمة سائغة للطبقة الوسطى، وبدأ الإقطاع يتجه إلى الانحسار والأفول، لتنشأ طبقة جديدة من العصاميين التجار والمهنيين. وبدأ المجتمع البرجوازي يحل محل المجتمع الإقطاعي، واحتل مفهوم القوى العاملة مكانة واسعة في السياسة والاقتصاد".
كذلك، ازدهرت حركة الفنون والآداب ازدهاراً خارقاً للعادة. وما تزال الأسماء التي ظهرت في هذه المرحلة تقود الأدب والفن والفلسفة؛ مثل نيتشه، وديكنز، وديستويفسكي، وموتزارت، وبلزاك، والأهازيج الغنائية للشاعرين ووردزورث وكوليريدج، ومعزوفات الخلق والفصول لبيتهوفن، وصورة مدام ريكامييه للرسام ج. ل. ديفيد، وأعمال غوته وشيللر وجان بول، وروايات لأمثال والتر سكوت، وفيكتور هوغو، وأليساندرو مانزوني، وقصائد لشعراء، مثل ليوباردي وألفريد دوفيني. وظهرت مسرحيات خالدة لبوشكين، ورواية بلزاك "الأب غوريو"، وأعمال لامارتين، وألكسندر دوماس، وبوخنر في ألمانيا.. وارتفعت المكانة الاجتماعية للمسرح، ونشأت ظاهرة معبود الجماهير من المغنين والموسيقيين والممثلين والجميلات.
وامتدّت التحولات إلى الأفكار والمعتقدات، لتصعد العلمانية التي تقلل من دور الدين في الحياة والسياسة. كذلك، ظهرت أيديولوجيات التقدم والنهضة؛ فكانت الرؤى والنظريات الماركسية والليبرالية.
وأخضع الدين والتاريخ لدراسات نقدية منهجية؛ فكان كتاب "حياة يسوع" من تأليف ديفيد شتراوس في ألمانيا التي أنشأ فيها فريدريك كارل فون سافيني المدرسة التاريخية لفلسفة التشريع. وظهر فيها أيضاً كارل ماركس. وهناك كتب ودراسات شارلز دارون عن أصل الأنواع والتاريخ الطبيعي للإنسان.
واتّسعت آفاق المعرفة، واطلع الناس على ما يجري من تطورات. وظهرت اختراعات مذهلة حوّلت حياة الناس؛ كالمصانع والمختبرات، واستخدام الغاز والطاقة والكهرباء، وسكة الحديد والآلة البخارية والمحركات.
وتحوّلت الأنظمة السياسية، وظهرت الجمهوريات وأنظمة الحكم الديمقراطية، وتشكلت الاتحادات والنقابات المهنية. واندلعت في العام 1848 ثورة اجتماعية، كانت مقدمة للثورة الشيوعية بعد ذلك بأكثر من ستين سنة. فقد كانت هذه الثورة انتفاضة للكادحين والعمال، وحشدت الطبقات الاجتماعية في العواصم في وسط وغرب أوروبا. وعندما هدأت العاصفة، وقف العمال ليطالبوا بالإضافة إلى الخبز والعمل، بإقامة مجتمعات ودول جديدة. وأدركت أنظمة الحكم المطلقة في أوروبا أنّ التاريخ يقف ضدها، فتداعت بسهولة عندما هبّت الثورة. وبدأ للمرة الأولى سكان المدن والحضر يتجاوزون سكان الريف؛ لتنشأ المدن العملاقة، وتنمو مداخيل الطبقة الوسطى من سكان المدن ومؤسسيها وقادتها الجدد.