استفزاز "المشاعر الدينيّة": بين "الضّرورة" و"الضّرر"

د. نارت قاخون

تغيير الأفكار والآراء والمواقف والاتّجاهات ليس أمراً هيّناً على الإطلاق، فهناك عوامل كثيرة تجعل هذا التغيير شاقّاً ومرفوضاً، فالنّاس تتمسّك بما ألفته واعتادت عليه، كما تنحاز لصواب آرائها وأفكارها، وتعمل ما استطاعت لإثبات هذا الصواب ودوامه؛ فالنّاس في أغلبهم راضون عن "عقولهم"، يعتزّون بـ"أفكارهم". فإذا أُضيف لهذه الأفكار والآراء عامل "التوارث" عن الأسلاف، وعامل الشيوع والسيادة في الجماعة التي ينتمي إليها الإنسان، أصبح التغيير أصعب بكثير، فإذا كان الأمر متعلّقاً بـ"الدّين" كانت الصعوبة في أقصى مستوياتها؛ فـ"الدّين" في تكوينه ونظر أتباعه إليه ليس مفهوماً "سائلاً" قابلاً للتغيير والتحوّل بسهولة؛ فـ"الدّين" الذي يتأسّس على "الوحي الإلهيّ" عند المؤمنين به يتّصف بالثبات والديمومة، فهو في أوّل الأمر وآخره "رسالة الله وإرادته". وإذا كان الدّين "خاتماً" كما في تصوّر أتباع الديانات الموسومة بـ"السماويّة" كان الاعتقاد بهذا الثبات والدّيمومة أقوى. وإذا أضفنا كون "الدّين" عند أتباعه أحدّ أهمّ مكوّنات "الهويّة" يصبح الحديث عن تغيير "المفاهيم الدّينيّة" و"السلوك الدّينيّ" اعتداء وحرباً على "مقدّسات الأمّة" و"وجودها" و"هويّتها".اضافة اعلان
كلّ ذلك يجعل أتباع الأديان في أعلى درجات الحساسيّة تجاه ما يمسّ ما يظنّونه أو يعتقدونه "ديناً"، فلا غرابة في أن تجد ردود أفعالهم شديدة تجاه أيّ استفزاز لمشاعرهم وأفكارهم الدّينيّة. ولكن السؤال المهمّ هو: هل يُمكن إحداث تغيير في بنية التّصوّر الدّيني على اختلاف مستويات التغيير دون أن يترافق هذا التغيير مع "استفزاز" للمشاعر والأفكار؟
إجابتي هي: لا يُمكن أن تخلو عمليّة تغيير من حدِّ من الاستفزاز؛ فالتغيير بما هو تغيير يتضمّن إبلاغ النّاس ثمّ إقناعهم أنّ ما هم عليه ليس هو الأفضل، بل هناك ما هو أفضل وأحسن، ويتضمّن أنّ ما يتبنّاه النّاس من أفكار وتوجّهات هو خطأ بدرجة أو أخرى، وإلا فما الحاجة للتغيير؟ التغيير حاجة يفرضها "الفشل" أو "القصور" أو "ظهور خيارات أفضل"، وفي جميع أحواله يتطلّب اعترافاً بأنّ ما نحن عليه الآن لم يعد صائباً أو نافعاً. والمطالبة بهذا الاعتراف بذاتها "مستفزّة"، فكيف بالاعتراف والتغيير نفسيهما؟
إنّ ارتباط التغيير بحدِّ من "الاستفزاز" يتطلّب من أصحاب الفكر "التغييريّ" مزيداً من "فقه التغيير" و"حكمته"؛ فمقاصد صاحب الدعوة التغييريّة الحقيقيّة هي حدوث "التغيير" فعلاً وواقعاً، وهنا أستثني مَن يرفع شعارات "التغيير والتجديد والثوريّة" وغايته تتوقّف عند "استفزاز الآخرين" واكتساب شهرة "ثوريّة" مجانيّة زائفة، فحديثي عمن يرى "التغيير" خطة إصلاح ونجاة تفرضها الحقائق المعرفيّة والواقعيّة والحضاريّة، أي إنّ مقاصد التغيير ونتائجه تشكّل عناصر مهمّة جداً في تشكيل "فلسفة التغيير وفقهه وحكمته" عنده.
هنا نبلغ في حديثنا عن الاستفزاز مستويين منه؛ الأوّل هو الاستفزاز الشعوريّ الذي يهدف إلى استثارة مجموعة من المشاعر تُفقِد "المؤمن بالأفكار التي يُراد تغييرها" اتّزانه وانضباطه في علاقته مع هذه "الأفكار"، وغالباً ما يقصد أصحاب الفكر التغييريّ من استثارة المشاعر أن يكون فقدان هذا الاتّزان والاستقرار سبباً لمراجعة الأفكار وإعادة النّظر فيها ثمّ التّخلي عنها، فيستعملون الوسائل الحارّة ذات الحمولة الاستفزازيّة الشعوريّة العالية كالسخرية والأحكام التعميميّة والغضب والاستجداء العاطفيّ، وهذه وسائل تنجح عادة في الإثارة والاستفزاز وإفقاد التوازن والاتّزان، إلا أنّ أغلب النّاس تواجه مثل هذا الاستفزاز بوسائل الدفاع النفسيّ والشعوريّ التي تنتهي غالباً إلى أمور منها: أن تصبح الأجواء العامة متوتّرة وعالية الاستقطاب، ممّا يجعل "التّطرّف اللفظيّ والفعليّ" سمة غالبة قد تدفع إلى "التشاتم" ثمّ "الاقتتال والاحتراب"، وهي نهاية قد يرى بعض "دعاة التغيير ومعارضيهم" أنّها "ضريبة ضروريّة" للتغيير أو مقاومته. ومنها تعميق الحاجز النفسي الرافض تجاه "الدعوة التغييريّة" وأصحابها، ومنها تطرّف أصحاب الأفكار المستفَزّة بمزيد من قوّة التمسّك بها، أي إنّ نتيجة الاستفزاز الشعوريّ تكون في الغالب مناقضة لمصالح "دعاة الفكر التغييريّ" ومقاصده، لذلك يُمكن وصف "المستفزِّين" للمشاعر بوسائلها المختلفة بأنّهم جزء من قوى "ممانعة التغيير وإبطاله" لا من "قوى التغيير"، فإنّ مهاجمة فكرة بأدلّة وأساليب خاطئة تلعب دوراً كبيراً في "تثبيت الفكرة" لا تغييرها. وهذا ما أسميه "التحالف الباطن" بين كثير من "دعاة التغيير" ومعارضيه.
فإذا كان "الاستفزاز" ضرورة للتغيير، وكان "الاستفزاز الشعوريّ" ضرراً للتغيير، فما وسائل "الاستفزاز" التي تقتضيها "فلسفة التغيير وحكمته"؟
قد تكون الإجابة "المغرية" هي "الاستفزاز الفكريّ والعقليّ"؛ أي أن يكون خطاب التغيير متّجهاً نحو مناقشة الأفكار ومحاكمتها بعقلانيّة وفلسفة نقديّة هادئة ومتّزنة نوعاً ما، فعوض "السخرية" و"التعميم" و"إطلاق الأحكام" تكون مناقشة الأفكار وأدلّتها بالمحاججة العقليّة العلميّة ممّا يجعل وسائل الدفاع والاندفاع النفسيين في أقلّ درجات حرارتها وتطرّفها، ويسمح لتبادل الأفكار وانتقالها الحرَّين.
كما قلتُ تبدو هذه الإجابة "مغرية" بعقلانيّتها واتّزانها وحكمتها، ولكنها تقع في "مغالطة علميّة واقعيّة"، وهي أنّ "الفصل التامّ بين المشاعر والأفكار" غير ممكن "بيولوجيّاً ودماغيّاً وواقعيّاً"؛ فالعلم الحديث يُثبت أنّ أعمال الدماغ متداخلة ومتفاعلة ويؤثّر بعضها في بعض؛ فالمشاعر والأفكار والأحاسيس من نتاج النشاط الدّماغيّ الذي يجعل "كيمياء الحبّ والكره والغضب والرفض" متداخلة ومتفاعلة مع "كيمياء الاقتناع والمنطقيّة والعقلانيّة"، ممّا يجعل "ثنائيّة القلب والعقل" ثنائيّة "نظريّة تاريخيّة" قد تؤول إلى الزوال. إضافة إلى أنّ "الحوارات الهادئة" التي تقترب من "البرود" تفقد الكثير من قوّة التغيير الحقيقيّة والجذريّة، وإن نجحت فهي تنجح مع فئة تقبل التغيير ابتداءً، والمشكلة ليست مع هؤلاء، بل هي مع قوى "الممانعة" التي تعاند التغيير وتحاربه وترى فيه تهديداً لوجودها ومصالحها. لذلك كان من ضروريّات التغيير "إقناع" الفئة المستهدَفة أنّ هذا التغيير يشكّل مصلحة لهم، وخياراً أفضل ممّا هم عليه، وهذا ما فشلت فيه أغلب دعوات التغيير إمّا لغياب المصلحة الحقيقيّة من التغيير، أو لفشلها في إقناع المستهدَفين بعوائد هذا التغيير، أو لقوّة "مراكز القوى" المستفيدة حصراً من عدم التغيير، أو لذلك كلّه.
إنّ ما أقترحه في هذا السياق هو أنّ أصحاب الفكر التغييريّ عليهم استثمار "الاستفزاز الإيجابيّ" شعوريّاً وفكريّاً لتحقيق مقاصد التغيير والتحوّل، وهذا "الاستفزاز" يتطلّب مجموعة من العناصر الشعوريّة والعقليّة المتداخلة والمتفاعلة، مثل "الجرأة والشجاعة" و"الصدق" الذي تتجلّى مظاهره في انطلاق "دعوة التغيير" من منطلق "الحرص" على الخير العام والنفع العموميّ، وحقيقة الانتماء للجماعة انتماءً يجعل "دعوة التغيير" منسجمة مع الظروف الحضاريّة والتاريخيّة لـ"الأمّة" الجامعة، والحواضن المجتمعيّة والثقافيّة التي تحتضن دعاة التغيير ودعوتهم، وهو ما أسميته من قبل بـ"الانحياز الحضاريّ"، وهذا يتطلّب قدراً كبيراً من "الإنصاف" و"الوعي" و"العلم" و"الحبّ" أيضاً، نعم "الحبّ" الذي يُكسب الأفكار والعقل دفئاً لا يتطرّف حتى يصير "حرقاً" عبر "الاستجداء العاطفيّ" أو "الاستعلاء النفسيّ" الذي يقع فيه أغلب دعاة التغيير، فتجدهم ينظرون إلى غيرهم بـ"إشفاق" أو "استهانة"، مع التأكيد على أنّ التخلّص من هذه "المواقف السلبيّة" ليس سهلاً؛ لأنّ "دعوة التغيير" تفترض ضرورة أنّ صاحب هذه الدعوة يرى نفسه يقدّم "الأفضل" و"الأصوب" و"الأحسن"، وهي مواقف ضروريّة لنشوء منطق "التغيير" وحاجته ابتداءً، ولكنّها كبقيّة "المواقف الإيجابيّة" لا تخلو من "لوازم سلبيّة"؛ فـ"الخير الخالص" لا وجود له في واقع الإنسان، لذلك كانت سيرة الإنسان مقترنة بـ"التدافع" و"التجاذب" و"التجادل" و"التسديد والمقاربة"، ويُمكن تلخيص الحكاية بالدعوة إلى "الصدق" بكلّ معانيه ومستوياته: الصدق مع النفس والآخرين، والصدق مع الفكر والمشاعر، والصدق مع "العلم" بتحصيل ممكناته، وعدم التغافل عن معطياته، ودون تحريف نتائجه، فليس من المعقول والمقبول أن "يتسيّد" مسرح "الخطابات الفكريّة" التغييريّة والمضادّة للتغيير "الجهل والتجاهل والانتقاء بالأهواء"، وأظنّها كارثة معرفيّة وأخلاقيّة أن يكون بعض "دعاة التغيير" على درجة فاضحة من "الجهل" بما يدعون النّاس لتغييره!
في هذه اللحظات الحرجة والمفصليّة نحتاج إلى الصدق مع أنفسنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا لعلّنا نبلغ ما نرجوه وما نستحقّه في هذه الحياة شعوباً وأفراداً.