استهجان رأس المال

مارك سبيتزناجل*
لوس أنجليس - كان موطن القوة الأعظم الذي تتمتع به الرأسمالية هو مرونتها، قدرتها على البقاء رغم التحديات والأزمات والدورات الاقتصادية وتغذية الإبداع والنمو الاقتصادي. ولكن اليوم، وبعد مرور أكثر من أربع سنوات منذ بداية أزمة الائتمان، ظهرت معضلة واضحة تضع هذا التراث موضع التساؤل والتشكك.اضافة اعلان
وعلى الرغم من تجدد آمال التعافي مؤخراً في الولايات المتحدة، بما في ذلك تعافي الأصول في الربع الأخير من العام 2011، فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة ظل أدنى من الاتجاه بشكل عنيد. ورغم أن بيانات تشغيل العمالة المعدلة موسمياً لشهر كانون الثاني (يناير) دفعت معدل البطالة إلى الهبوط إلى 8.3 % (في حين تراجعت الوظائف الإجمالية فعلياً في يناير)، فإن المعدل الأكثر واقعية للبطالة المقنعة يظل أعلى من 15 %، وما يزال معدل المشاركة في قوة العمل عند أدنى مستوياته على مدى ثلاثين عاما. ومن الواضح أن الولايات المتحدة ليست وحدها في هذه المحنة، حيث تخوض منطقة اليورو معركة ضد أزمة الديون السيادية الأكثر إلحاحا.
ما الذي قد يجعل هذه المرة مختلفة إذا؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في احتجاج آين راند البلاغي اليائس في ملحمة "استهجان أطلس" في العام 1957: "ومن يكون جون جالت؟". والأمر ببساطة أن الدولة عندما تستولي على حوافز ودوافع الاستثمار الرأسمالي، فإن أصحاب رؤوس الأموال يضربون عن الاستثمار.
يصور راند الصناعيين المبدعين في هيئة أشبه بأطلس في الأساطير اليونانية، الذي يحمل على ظهره ذلك العالم البائس من النمو والحكومات الجمعية المتعجرفة. ويدعوهم البطل جون جالت جميعاً إلى إبداء عدم الاكتراث و"إيقاف محرك العالم" بالانسحاب من مساعيهم الإنتاجية، بدلاً من تشجيع هذا العالم حيث تُغتَصَب الحوافز تحت ستار مبدأ المساواة من أجل حماية هؤلاء من ذوي الاتصالات السياسية القوية من الفشل الاقتصادي.
ويبدو أن عالم راند الخيالي أصبح اليوم حقيقة واقعة - عمليات إنقاذ وتحفيز اقتصادي لا نهاية لها لغير المنتجين على حساب الأكثر إنتاجية، ودعوات إلى فرض ضرائب إضافية على الاستثمار الرأسمالي. واليوم نستطيع أن نتبين تأثير رجال الأعمال البطوليين، الذين تحدث عنهم راند، في الشفرات والرموز المتشابكة على دفاتر الميزانيات الشركاتية والحكومية.
لقد أضاف بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أكثر من 2 تريليون دولار إلى المعروض النقدي الأساسي منذ العام 2008 ـ وهو رقم مهول وغير مسبوق وكان في الأساس بمثابة هدية قدمت للبنوك بهدف تغطية خسائرها العميقة وتحفيز الإقراض والاستثمار. ولكن ما حدث بدلاً من ذلك، مع استمرار البنوك في عمليات تقليص المديونية الهائلة، هو أن أغلب أموالها الجديدة ظلت لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في هيئة احتياطيات فائضة.
وتحتجز الشركات فضلاً عن ذلك أكبر كميات تم تسجيلها على الإطلاق من السيولة النقدية، نسبة للأصول والقيم الصافية. ولكن رغم مزاعم الخبراء بشأن الموازنات القوية، فإن مستويات ديون الشركات، نسبة للأصول والقيم الصافية، تظل أيضاً قرب مستويات غير مسبوقة من الارتفاع.
الآن بات كنز الأموال النقدية هو الهدف الأعظم. وتواصل سرعة المال (المعدل الذي تنفق الأموال وفقاً له، أو الناتج المحلي الإجمالي نسبة إلى المال الأساسي) الانزلاق إلى مستويات متدنية تاريخية. ولا عجب أن السياسة النقدية كانت ذات تأثير ضئيل للغاية. ويقبع رأس المال، المحرك للنمو الاقتصادي، يقبع خاملا ـ مبدياً عدم اكتراثه في كل مكان.
ولعل راند كان ناجحاً أكثر من أي مراقب اقتصادي آخر في التأكيد على الدور المركزي الذي تلعبه الحوافز في تحريك الإبداع التجاري وخوض المجازفة. فعندما تخنق الحوافزـ وقدرة السوق على إبرازها من خلال مؤشرات الأسعار ـ فإنك بهذا تحرم محرك النمو من الوقود. ومن المؤسف أن محافظي البنوك المركزية، بتلاعبهم بأسعار الفائدة واستخدامهم للتيسير الكمي، يتجاهلون هذه الحقيقة بكل وضوح.
إن أسعار الفائدة ليست مجرد مُدخَل اقتصادي يحدد مستويات الادخار والاستثمار. بل إنها على حد تعبير رجل الاقتصاد النمساوي لودفيج فون ميزس انعكاس لتفضيلات الناس الزمنية الكلية ـ أو الرغبة في الإشباع اللحظي بدلاً من الإشباع المستقبلي ـ وليست وسيلة لتحديد هذه التفضيلات.
أي أن أسعار الفائدة تحفز أصحاب المشاريع وتنقل إليهم كيفية تخصيص رأس المال عبر الزمن. على سبيل المثال، تعمل أسعار الفائدة وتكاليف رأس المال المنخفضة على رفع الجاذبية النسبية لزيادة تدفقات رأس المال في المستقبل، فيزداد الاستثمار الرأسمالي ـ وهي الاستجابة الداخلية من جانب النظام لارتفاع معدلات الادخار وتراجع الاستهلاك.
ومع هذا فإن تلاعب الدولة بأسعار الفائدة لا يؤثر على التفضيلات الزمنية، رغم أنه يشير إلى مثل هذا التغيير. ويعمل التناقض الناجم عن هذا على خلق التشوهات: فكما هي الحال مع أي وسيلة للسيطرة على الأسعار، يجد رأس المال الحافز للتدفق إلى الاستثمارات غير المنسجمة مع العرض والطلب الفعليين.
إن بنك الاحتياطي الفيدرالي يتعمد تشويه نظام الحوافز ـ على وجه التحديد، الإشارات المستمدة من أسعار المال ـ الأمر الذي يؤدي إلى الاستثمار الرديء (ثم التضخم عندما يتم تحويل الديون العامة إلى أوراق مالية). وقد يستمر هذا لبعض الوقت، فيكافئ الاستثمارات غير المنتجة وتلك القِلة من المضاربين الطامحين الذين يفترضون أن بنك الاحتياطي الفيدرالي نجح في القضاء على المخاطر. ولكن كما يذكرنا راند فإن الحيلة لا بد وأن تنكشف عند نقطة ما.
اليوم، وبعد التوسع الائتماني الأكبر في التاريخ، يبدو من الواضح أننا بلغنا تلك النقطة بالفعل. والآن تتجاهل رؤوس الأموال غير المبالية الإشارات السوق المضللة، وتنتشر عمليات تصفية الاستثمارات الرديئة عبر النظام مع تغلب التفضيلات الزمنية الثابتة.
إن الدولة غير قادرة في الأمد البعيد على إصدار توجيهاتها لعالم المال والأعمال باستئناف الإقراض والاقتراض والاستثمار؛ فمن المحتم أن يتجاهل رأسمال الاستثمار كل هذا عندما يجد نفسه في مواجهة هذا التلاعب القمعي بالأسواق الحرة. وعندما يحدث هذا فسوف نرى النتيجة الحقيقية للسياسة النقدية المتساهلة: ليس خلق المزيد من الفرص الاقتصادية، بل تدمير الآلية الطبيعية للتنسيق الاقتصادي والتكيف، وحرمان النظام من مرونته. لقد عملت السياسة النقدية في الواقع الفعلي على "إيقاف محرك العالم".
في خاتمة كتاب راند، يسعى جالت إلى استعادة النظام القديم مع انهيار النظام الجمعي. تُرى هل يحدث شيء كهذا في عالمنا البائس أيضا (حيث يبدو أن كل من تبقى من المرشحين الجمهوريين لرئاسة الولايات المتحدة يفضلون إقالة رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي)؟ وإلى متى يتعين على رأس المال أن ينتظر قبل أن يحين اليوم الذي يتحرر فيه محرك النمو من الحوافز المشوهة ويتغذى بالوقود فيزأر من جديد؟


*مؤسس وكبير مديري الاستثمار يونيفيرسا للاستثمار.
خاص بـ "الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.