اسكتلندا.. قصتنا الفاشلة مع الوحدة والانفصال

ليس في تاريخنا المعاصر سوى نماذج فاشلة للوحدة والانفصال. في خمسينيات القرن الماضي، فرض العسكر الوحدة بالقوة على الشعبين السوري والمصري، فانهارت بعد سنوات قليلة. وقبل ثلاث سنوات، اختار 99 بالمائة من سكان جنوب السودان الانفصال؛ هم في الواقع اختاروا الهروب من جحيم سياسات الشمال، لكن بالنتيجة ولدت دولة فاشلة في الجنوب، وظلت دولة السودان مثالا على دولة فاشلة تنخرها الصراعات.اضافة اعلان
الدولة التي صمدت موحدة بقوة السلاح وجبروت الأنظمة المستبدة، كالعراق مثلا، تواجه خطر التفكك ما إن سقط نظام الحكم.
معظم الدول العربية تعيش وهم الوحدة؛ اليمن لم تفلح عندما انفصلت لكيانين، وتحولت إلى دولة فاشلة بعد الوحدة. في كلتا الحالتين لم تكن الوحدة والانفصال خيارا شعبيا.
لم نسمع في كل تلك التجارب الوحدوية والانفصالية، ولو مرة واحدة، نقاشا عاما، ديمقراطيا وحرا، بين دعاة الوحدة والانفصال؛ نقاشا مدعما بالحجج والأفكار، ينطلق من مصالح الناس المباشرة ومستقبلهم، فيمنح الناس العاديين فرصة الاختيار بناء على معطيات منطقية ملموسة، لا أحلام وأوهام وهلوسات تاريخية لا تعني شيئا في الحاضر.
نستدعي هذه الذكريات الأليمة بمناسبة الاستفتاء الذي جرى أول من أمس في اسكتلندا، واختارت فيه الأغلبية البقاء ضمن الاتحاد البريطاني عوضا عن الانفصال الذي ناصره القوميون في البلاد.
لأسابيع طويلة، شهدت اسكتلندا سجالا ساخنا وعميقا بين دعاة الوحدة والانفصال. الجدل كان في الواقع بين تيار قومي يريد العودة بالاسكتلنديين 300 سنة إلى الوراء، أي ما قبل قيام الاتحاد البريطاني، وبين تيار آخر شعبي عريض يتطلع للمستقبل، ولا يرى بديلا عن استمرار الوحدة كخيار وحيد يضمن مصالح الشعب.
في النهاية، صوتت الأغلبية لأجل المستقبل لا الماضي؛ فالدنيا لا تسير إلى الخلف، بل للأمام.
لم يكن لدعاة الوحدة أن يفوزوا على المتعصبين القوميين في اسكتلندا لو لم ينجحوا في جعل الوحدة خيارا جاذبا لجيل الشباب تحديدا، ولو لم تكن أدوات الإقناع ديمقراطية؛ تعتمد الحجج والبراهين، في مواجهة حملات الانفصال التي لجأت إلى التاريخ الأسطوري للشعب الاسكتلندي.
وللعلم، لشعب اسكتلندا تاريخ عظيم يستحق أن يفخر به، يفوق بالتأكيد تاريخ قبائل جنوب السودان، واليمن. فعالم الاقتصاد الأكثر شهرة في التاريخ آدم سميث، صاحب كتاب "ثروة الأمم"، اسكتلندي. وفي الأدب، هناك آرثر كونان دويل الذي ابتكر الشخصية البوليسية شيرلوك هولمز. وفي مجال العلوم، مخترع الرادار روبرت واطسون وات. وفي السينما النجم الشهير شون كونري. وفي الرياضة المدرب التاريخي لنادي مانشستر يونايتد السير أليكس فيرغسون. أما في السياسة، فقدمت اسكتلندا توني بلير وغوردن براون، وهما من أهم رؤساء حكومات بريطانيا في العقود الأخيرة.
ما تزال التصورات عن الوحدة في بلادنا العربية تصورات رومانسية؛ تجتر التاريخ ولا تعتني بالمستقبل؛ تراهن على الماضي وليس على مصالح الأجيال في الحاضر؛ قسرية لا ديمقراطية. ولذلك، يكون الطموح إلى الانفصال عند بعض الشعوب والقوميات والأقليات، هروبا لا استقلالا، فتنتهي لمصير من انفصلت عنهم من دول وشعوب.
هي قصة الفشل العربي ذاتها تتكرر في الكيانات الموحدة والمستقلة. ولا سبيل لتجنب هذا المصير قبل أن نقلع عن التفكير بالماضي ونتطلع للمستقبل؛ عندها تصبح كل الخيارات ممكنة وقابلة للحياة.