اعتداء على مؤسسات الهند

رئيس الوزراء الهندي ناندرا مودي – (أرشيفية)
رئيس الوزراء الهندي ناندرا مودي – (أرشيفية)

شاشي ثارور*

جنيف- في ولاية كارناتاكا في الهند، يؤيد الحاكم تكليف حزب حزب بهاراتيا جاناتا بتشكيل الحكومة، على الرغم من حصول ائتلاف معارض على عدد أكبر من المقاعد في المجلس التشريعي للولاية. وقد أثار الجدال الدائر الانتباه إلى الطريقة التي جرى بها اختزال الموقف الدستوري لخدمة المصالح السياسية للحزب الحاكم في الهند.اضافة اعلان
تشكل المؤسسات العامة القوية التي تعمل فوق أجواء التناحر السياسي أهمية بالغة لأي ديمقراطية. لكن كل هذه المؤسسات التي لا تقدر بثمن في أكبر ديمقراطية في العالَم، الهند، أصبحت مهددة في السنوات الأربع الأخيرة في ظل حكومة بهاراتيا جاناتا الهندوسية الشوفينية العدوانية التي تعمل على توطيد سلطتها.
ولنضع حكام الولايات جانباً (طلب حزب بهاراتيا جاناتا منهم أن يستقيلوا جميعاً لإفساح المجال أمام المعينين سياسياً بعد فوزه في انتخابات 2014 مباشرة) ولنبدأ بالنظام القضائي، الذي خضع للتدقيق والتمحيص منذ كانون الثاني (يناير)، عندما عقد أكبر أربعة قضاة في المحكمة العليا مؤتمراً صحفياً غير مسبوق للتشكيك في طريقة تخصيص كبير القضاة، ديباك ميسرا، للقضايا. وقد أوحت تعليقاتهم ضمناً بأن ميسرا يخصص القضايا لقضاته المفضلين، ويفترض في هذا أنه محاولة لتأمين نتائج تحابي الحكومة (وإن كان هذا لم يُذكَر صراحة).
بعد ثلاثة أشهر، قامت عدة أحزاب معارضة بتعميم دعوى عزل ضد ميسرا في مجلس الشيوخ في البرلمان. وبعد أن رفض رئيس مجلس الشيوخ ونائب الرئيس الهندي فينكايا نايدو الدعوى، طلب اثنان من أعضاء البرلمان من المحكمة العليا الطعن في القرار. لكن ميسرا عين قاضياً يبدو أنه محبب لديه للاستماع إلى الطلب الذي تقدمت به الأحزاب -الأمر الذي دفع النواب إلى سحب قضيتهم. وربما يكون ميسرا آمناً، لكن صورة القضاء تلقت ضربة قوية لن تتعافى منها بسهولة.
كما تلقت سمعة لجنة الانتخابات في الهند -التي لها سجل طويل من إدارة الانتخابات الحرة والنزيهة، رغم أنها تتألف إلى حد كبير من موظفين مدنيين معينين من قِبَل الحكومة لفترة ولاية ثابتة- ضربة قوية العام الماضي. ففي ابتعاد عن مدونة السلوك التي تحكم عملها، أعلن رئيس اللجنة الانتخابية الذي عينه حزب بهاراتيا جاناتا آنذاك، أتشال كومار جيوتي، مواعيد الانتخابات في ولاية هيماشال براديش، وولاية جوجارات بفارق 13 يوماً، حتى رغم أن الولايتين تذهبان إلى صناديق الاقتراع في الوقت نفسه عادة. وقد زعمت اللجنة الانتخابية أنها أخرت إعلان جوجارات حتى لا تتسبب مدونة السلوك الانتخابي (التي تقيد الإنفاق الحكومي في الولاية) في إعاقة عمليات الإغاثة من الفيضانات. لكن أغلب الهنود يعتقدون أن حزب بهاراتيا جاناتا مارس الضغوط على اللجنة الانتخابية لحملها على تأخير الإعلان لأطول فترة ممكنة، حتى تتمكن من اجتذاب ناخبي اللحظة الأخيرة الذين لا علاقة لهم بعمليات الإغاثة من الفيضانات. وفي وقت لاحق، أعلنت حكومة جوجارات، بل وحتى رئيس الوزراء نارندرا مودي، عن العديد من هذه المخططات. وقد أدان مفوضو الانتخابات السابقون بالإجماع قرار اللجنة الانتخابية، ولكن بدون جدوى.
كان ما زاد الطين بلة هو أن اللجنة الانتخابية قررت في كانون الثاني (يناير) استبعاد 20 من أعضاء الحزب العاديين من المجلس التشريعي في دلهي لأسباب فنية -وهو التصرف الذي كان ليعود بالنفع على حزب بهاراتيا جاناتا لو أعقبه إجراء انتخابات تكميلية على مقاعده. وقد ألغت محكمة دلهي العليا هذا القرار، واصفة إياه بأنه "رديء وينتهك مبادئ العدالة الطبيعية". ولكن، كما هو حال السلطة القضائية، كان الضرر قد وقع بالفعل: فما كان ذات يوم الحارس المحايد للعملية الديمقراطية في الهند يعمل الآن -تحت ضغط من حزب بهاراتيا جاناتا- على تشويه دوره، وإضعاف مكانته بين الهنود.
تتواصل قائمة المؤسسات الهندية التي تفقد مصداقيتها على نحو متزايد ببنك الاحتياطي الهندي. فقد أثارت عملية سحب العملة الكارثية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 انتقادات واسعة النطاق لبنك الاحتياطي الهندي لفشله في أداء واجباته الائتمانية. ومن المؤكد أن بنك الاحتياطي الهندي لم يُستَشَر على النحو اللائق عندما اتخذ حزب بهاراتيا جاناتا القرار. لكنه فشل مع ذلك بشكل روتيني في توقع المشاكل التي قد يحدثها المخطط، كما فشل في استخدام استقلاله لتحسين عملية التنفيذ والتخفيف من الآثار السلبية. وقد أصدر بنك الاحتياطي الهندي بدلاً من ذلك 138 إخطاراً حول عملية سحب العملة على مدار سبعين يوماً، وكان كل إعلان جديد يرقى إلى تعديل لإعلان سابق حول مقدار الأموال التي يمكن سحبها ومتى، على سبيل المثال. وكان الأمر وكأن بنك الاحتياطي الهندي تحول إلى دمية تتلاعب بخيوطها حكومة حزب بهاراتيا جاناتا.
في كانون الثاني (يناير) من العام الفائت، كتب المنتدى الموحد لمسؤولي وموظفي بنك الاحتياطي الهندي إلى الحكومة لتسليط الضوء على "سوء الإدارة التشغيلية"، التي زعم أنها "أضعفت استقلالية بنك الاحتياطي الهندي وسمعته بدرجة غير قابلة للإصلاح". وبسبب صمته، أصبح محافظ بنك الاحتياطي الهندي، أورجيت باتل، أشبه بحمل وديع. ولكن، في حالتنا هذه، كان في "صمت الحملان" أشد الضرر ببنك الاحتياطي الهندي ذاته، وكانت العواقب -مرة أخرى- طويلة الأمد.
كما كانت حكومة مودي راغبة في تسييس المؤسسات الأمنية. وعلى سبيل المثال، تجاوزت الحكومة بتعيين الجنرال بابين راوات رئيساً لأركان الجيش، جنرالين أعلى منه رتبة، مستهزئة بذلك بمبادئ الأقدمية المعمول بها منذ الأزل. وعلاوة على ذلك، استخدمت الحكومة الجيش مراراً وتكراراً في دعايتها السياسية، وكشفت علناً عن تفاصيل عملياتية كانت الحكومات السابقة تبقيها سراً (مثل الإعلان عن توجيه "ضربة جراحية" لقواعد الإرهابيين في منطقة تسيطر عليها باكستان). وخلال انتخابات ولاية كارناتاكا الأخيرة، استغل مودي ذاته المؤسسة العسكرية الهندية بشكل فاضح لتحقيق غاياته القصيرة الأمد، من خلال شجب أول رئيس وزراء للهند بسبب مزاعم عن إهانة اثنين من قادة الجيش من الولاية، على الرغم من أن هذا لم يحدث قَط.
ولم تسلم شرطة دلهي ووكالات التحقيق الفيدرالية -وخاصة مكتب التحقيقات المركزي- من التسييس أيضاً. فقد وُصِف مكتب التحقيقات المركزي بأنه "ببغاء في قفص" في ظل حكم حزب بهاراتيا جاناتا، مع عمله الذي يُعَد الآن في كثير من الأحيان ذا دوافع سياسية، بعد أن وُصِف ذات يوم بأنه المعيار الذهبي في مكافحة الجريمة الهندية. كما أُفرِغ قانون الحق في الحصول على المعلومات، الذي يهدف إلى ضمان الشفافية والمساءلة، من مضمونه بفعل تثاقل الحكومة، ورئيس ديوان المظالم الوطني، أو الممثل القانوني، الذي لم يتم تعيينه بعد ما يقرب من خمس سنوات من صدور قانون لاستحداث هذا المنصب.
كما ألقيت ظلال من الشك على نزاهة المجلس المركزي للتعليم الثانوي، بعد تسريب أسئلة امتحان المدارس الوطنية، والذي أرغم 1.6 مليون طالب على إعادة الامتحان. كما نشأت مشاكل مماثلة حول اختبارات القبول لدراسة القانون والطب، فضلاً عن الاختبارات لمناصب كهنوتية. وفي وقت حيث أصبح عدد الوظائف أقل كثيراً من أعداد العمال، فقد يؤدي تدني مستوى الثقة في نظام الاختبارات التنافسية كوسيلة لتقييم الطلاب إلى تقويض السلام الاجتماعي.
وحتى البرلمان الهندي -"معبد الديمقراطية"- شهد تحول أعماله إلى مهزلة، لأن حلفاء حزب بهاراتيا جاناتا وأنصاره تعمدوا دفع جلسة الميزانية في مجلس النواب إلى طريق مسدود في نيسان (إبريل) 2018. ومع زعم رئيسة المجلس التي عينها حزب بهاراتيا جاناتا أنها لم تتمكن من "إحصاء الرؤوس" وسط الضجيج، لم يُطرَح اقتراح أحزاب المعارضة بسحب الثقة من الحكومة للمناقشة.
يجري تسهيل مثل هذا السلوك من خلال الهجوم على مؤسسة أخيرة بالغة الأهمية: الصحافة الحرة، التي تبدو الآن وكأنها أُخضِعَت إلى حد كبير لقوة الحكومة المتغطرسة، ناهيك عن ترهيبها الواضح والاستيلاء على منافذ التيار السائد.
إذا سُمِح باستمرار هذا الهجوم على مؤسسات الهند، فقد يفقد عامة الناس ثقتهم في النظام كلياً. وهو ما من شأنه أن يحمل عواقب لا يمكن تقديرها على الأصل الأكثر قيمة في الهند: الديمقراطية.

*نائب سابق للأمين العام للأمم المتحدة، ووزير الدولة الهندي السابق لتنمية الموارد البشرية ووزير الدولة للشؤون الخارجية، يشغل حالياً منصب عضو البرلمان عن حزب المؤتمر الوطني الهندي ورئيس اللجنة البرلمانية الدائمة للشؤون الخارجية. مؤلف "باكس إنديكا: الهند وعالم القرن الواحد والعشرين".
*خاص بـ "الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".