اقرأ..!

التقطت من المكتبة كتابين متجاورين: الأول "خمس مسرحيات طليعية" ليوجين يونسكو، والثاني "لغز مدينة الآلهة" (قصة بوليسية للفتيان). وبلا حيرة تقريباً، وضعت يونسكو جانباً وشرعت في قراءة القصة البسيطة. وقبل أيام فقط، قال لي صديق مثقف إنّه قرأ في اليوم السابق واحدة من قصص اللص الظريف "أرسين لوبين"، وتحدث عن قراءة تلك القصص أيام الطفولة بحنين.اضافة اعلان
بالنسبة لي، أتذكر في بدايات تعرفي إلى القراءة تبادل القصص المصورة، "سوبرمان" و"الرجل الوطواط" وما شابه مع الزملاء. ثم انتقلنا بعد ذلك إلى قراءة ألغاز "المغامرين الخمسة" و"الشياطين الـ13" والكثير من قصص أرسين لوبين وأجاثا كريستي البوليسية. وفيما بعد، عندما كنتُ أشتري لأبنائي هذه القصص، كنتُ أغتنم الفرصة وأستل الوقت لقراءتها بين كتب السياسة والأدب المعقدة. ودائماً، هناك نفس الراحة التي تجلبها قراءة القصة البسيطة التي لا تُجهد الذهن في الربط والتفكيك، وإنما تُسلّي الخاطر وتهدئ توتر الدماغ. وهناك أيضاً: الشعور بالإلفة والحنين، والامتنان.
نحنُ –أنا وصديقي صاحب أرسين لوبين وكثيرون غيرنا- مدينون لتلك الكتب اللينة الهيّنة الشائقة، لأنها قبلتنا بتلك الجاذبية والترحاب إلى عالم القراءة. وبعد ذلك، أصبح الأمر يشبه ارتياد الطوابق الأعلى فقط في بيت عبرنا عتبته وأقمنا فيه وتعودنا أجواءه. وكانت صحبة "المغامرين الخمسة" وما شابه –لمن يتذكر- هي العربة التي حملتنا إلى يوجين ومسرح العبث، وفكر أرسطو وهيجل.
بشكل أساسي، تتشكل عادات القراءة عندما يشعر الطفل الذي تعلم التهجئة أنه يحبُّ ما يقرأ، مع التغاضي عن جديّة المحتوى بداية. وعندما تتحول القراءة إلى ممارسة لا غنى عنها وتقارِبُ الإدمان، يجد القارئ نفسه راغباً في استكشاف أي مادة مكتوبة تقريباً. وإذا كان هذا صحيحاً، فإنّ محتوى مناهج القراءة المدرسية يشكل المفتاح المركزي لبدء علاقة وديّة بين المرء والقراءة. ولا يبدو من المناسب –بعد التجربة- أن تركز الكتب المدرسية على وحدات اللغة، مثل الكلمات والعبارات، وتعرضها معلّقة في الهواء بلا سياقات منطقية. وأعتقد أنّ القصص المُختارة بعناية في كتب القراءة الابتدائية القديمة صنعت الفارق في علاقة الناس بالقراءة عند الأجبال الأسبق. ومع أنّ الحديث يتركز في هذه الأوقات على تعدد البدائل التي تشغل وقت الأطفال، مثل الألعاب الإلكترونية والبرامج التلفزيونية، فإن المدرسة تستطيع الإصرار على الاحتفاظ بدورها الأساسي المتعلق بصيانة حضور الكتاب وترويجه وإقامة العلاقة الصحية بينه وبين الطلبة.
لماذا الحديث ثانية عن القراءة؟ لأنّها المبتدأ والخبر في صناعة الجوهر الاجتماعي وهويّة الوعي العام. وإذا أردنا أن نعرّف أنفسنا، كأناس حضاريين أم بدائيين يزعمون الحضارة، فإن الإجابة تأتي من السؤال البسيط: هل نحن شعب يقرأ؟ وليست أيّ قراءة. ثمّة خدعة يمارسها الناطقون الرسميون باسم التعليم حين يجيبون عن هذا السؤال باستدعاء الإحصائيات عن نسبة التعليم والأميّة. وليس هذا معياراً. إنّ أيّ طالب تخرج من المدرسة الثانوية، ناهيك عن الجامعة، يستطيع أن يقرأ عليك نصاً إذا أعطيته إياه. ولكن، اسأله عن معلومات ينبغي أن تكون معرفتها عادية، عما يحدث الآن في بلده وما هي مقدماته ومساراته، وستكتشف كَم هو أمّي لا يقرأ. ومقارنة، يتذكرّ الكثيرون أنّ معظم "الأميّين" من جيل آبائنا الذين لم يذهبوا أبداً إلى الكُتّاب والمدرسة ولم يتعلموا حرفاً مكتوباً، كانوا يتابعون الأخبار، ويتبادلون روايات التراث والتاريخ شِفاها ويعرفون عمّا يدور في العالم أكثر بما لا يُقاس من غالبية جامعيي اليوم. فمَن هو الأمّي؟!
الآن، يدور الحديث كثيراً عن "صحوات" عربية وقُطريّة. لكنّه يتبيّن أنّ أجيال الفيسبوك وتويتر تعجز عن طرح بديل. ولذلك بالتحديد، تعيد الحراكات العربية إنتاج نفس منظومات السلطة والعقل المقفل. ولسنا بعيدين عن هذا التوصيف في الأردن. ومن المؤكد أن هذا كله من إنتاج التوجه السياسي المستبد بالقرار التعليمي والتثقيفي، والذي صرَف الأجيال عن مطالعة الإنسانيات وعمّق انفصال الناس عن القراءة-القراءة. والسبب: إنّ القراءة، فالمعرفة وتشغيل العقل، هي أكبر خطر يتهدد أيّ سلطات تزعم لنفسها الأحقية والصواب ولا تريد أن تتزحزح.
من الصعب غالباً تأسيس ثقافة قراءة بلا جهد رسمي، لكنّ ذلك لا يعفي الأفراد والمنظمات المدنية من بذل المحاولة.