‘‘الآسكا‘‘ و‘‘موطني هنا‘‘... قيم الحياة والروابط الإنسانية

مشهد من فيلم "موطني هنا"- (الغد)
مشهد من فيلم "موطني هنا"- (الغد)

إسراء الردايدة

عمان- ما يجمع بين الفيلم الإيطالي "الآسكا" والنمساوي "هنا موطني"، قيم العلاقات الإنسانية: بين الحب والوحدة، بين التحدي والشغف، والبحث عن الذات وما هو الوطن.. وكيف يغدو المنفى قيدا يفسد قيمة الحياة.. وأثر الفن في التعبير عن ذلك.اضافة اعلان
فيلمان مختلفان في إطار عروض  الدورة الثلاثين لمهرجان الفيلم الأوروبي، إلا أن كلاهما يقدم أهمية التواصل والعواطف البشرية بمنظور مختلف، خاصة تلك التي تسهم في تطوير الشخصية والبحث عن العديد من الإجابات في الحياة.
الآسكا.. هل يكفي الحب أحيانا!
للمخرج كلاوديو كوبيليني،  قصة حب تتنقل بين فرنسا وإيطاليا، بطلاها شابان هم: "فاوستو" ايليلوجيرومانو "ونادين" أليس بيرغيس، رقيقا المشاعر تسكنهما الرغبة ببلوغ السعادة سويا، ولكن منعطفات الحياة دائما ما تحمل المفاجآت.
التنقل بين باريس وميلان، بين السجن ودور الازياء، وكيفية تطور الشخصيات ونموها لكل من فاوستو ونادين من بداية الفيلم وحتى آخره، بحسب تصاعد وتيرة العلاقة بينهما في مواجهة الحياة والأحلام.
هو فيلم ملحمي لنهايته التي تبدو غير واقعية مقارنة لما مر به الإثنان، بين حب وخيانة، وتفرق، ففي بداية الفيلم فاوستو يدخل السجن لأجل نادين، بعد أن قام بضرب أحدهم لحمياتها، لحين لقائهما بعد إنهاء حكمه وخروجه.. حتى تتطور العلاقة بينهما.
"الآسكا" هو اسم النادي الذي يديره فاوستو برفقة صديقه ساندورن، وهو الذي يسهم في تطور شخصيته من رجل فاشل لرجل أعمال وشخصية مختلفة، تشهد صعودا وتوزان للشخصيات فيه، ومشاعر صادقة تعري كل المجاملات.
الحب الحقيقي هو ما يحمله الفيلم طيلة الوقت.. ليس من السهل الهروب منه، وفي المقابل ينعكس هذا على أداء الأبطال في لقاء جمع غريبين وحيدين "منكسرين"، هاجسهما هو السعادة والمستقبل الذي يدفعهما للقيام بخيارات وسلوكيات تنعكس عليهم وعلى الآخرين، في حين أن الشوق للآخر لا يهدأ بين الطرفين..  فهما الدواء والترياق لبعضهما البعض.
وفي الوقت الذي ترسم به الدقائق العشر الأولى من الفيلم ملامح العلاقة بين فاوستو ونادين، فإن 110 دقائق المتبقية منه تطرح سؤالا أساسيا هو: "هل سيتحدى الحب بينهما اختبارات الزمن ويبقيا معا؟"، لتأتي الاجابة في شكل منعطفات صعبة تضاعف الدراما وتتحول لملحمة شخصيات ضعيفة ترتكب الخطأ تلو الآخر، مما يجلعها أكثر إنسانية، وسط جدالية "ما يجعل الفرد سعيدا أكثر المال أم الحب"؟
ويذكر الفيلم بالكلاسيكيات السينمائية من خلال التمثيل والدراما التي تتبع كل شخصية بحد ذاتها، حيث تتلاقى الميلودراما لتصبح مكثفة، وقصصا موازية تدعم الأحداث، حتى النهاية التي تركت مفتوحة للمشاهد.
"هنا موطني": الخروج من المنفى الداخلي
يتناول فيلم المخرجة التشيكية تيريزا كوكتيك، التواصل البشري والتحرر من العزلة التي نخلقها داخل أنفسنا، في إطار فلسفة وجودية تجمع بين شخصيتين لم يلتقيا وجها لوجه، إلا أن رابطا عجيبا ينشأ بينهما ويؤثر فيهما!
هانا "آنا استروم" وماكس" ستيب ايرسيج"،  من بيئتين مختلفتين، فهي مفعمة بالحياة لا تعرف هدفها، وخلال اقتحامها لمنزل ماكس البارد تكتشف شيئا فشيئا ذاتها، فيما تتغير حياتهما من خلال الأسئلة التي يطرحها كلاهما على الآخر.
الأحداث التي تقع في الشتاء في مدينة انسبروك، تعكس البرودة حيث يعيش استروم وايرسيج الى جانب ألوان الفيلم البصرية التي كانت تميل للرمادي، أما العبارات المستخدمة من وحي فلاسفة وروائيين أدبيين تعبر عن تلك الحيرة وحالة الضياع التي يعيشهما الاثنان في مشاهد معبرة أكثر من الحوار ذاته، في "فيلا" غريبة حديثة.. لكنها تخلو من الحياة.
تلك الرسائل التي يتبادلاها البطلان، ومن خلال اتباع الفيلم لإسلوب بصري شعري نفذته مديرة التصوير استريد هيوبرانتنر، نقلته الشخصيات بقوة الى جانب الموسيقى التصويرية التي قامت بتأليفها الملحنة التشيكية ماركيتا ايرجلوفا الحائزة على جائزة الأوسكار.
ينتقل للمشاهد حاجة البطلين الشديدة في البحث عن العاطفة التي تعيد لهما الشعور بالوطن وسط الغربة التي دفعتهما للإبداع، وسط روتين حياتهما اليومي الذي عزز الملل وحتى عامل الكآبة في حياتهما قبل أن يحرر أحدهما الآخر.
وبذات الوقت تتناول المخرجة الضغوطات التي تقع على الفرد في حياته، حين يتكيف مع وضع ما، ويبقى نفسه منعزلا ويشعر بالحصار، فيصبح مقيدا فيه وهو ما عكسه المنزل الحديث ذو الواجهات الزجاجية التي تكشف كل شيء من الخارج، وكأنها مثابة منفى لصاحبها.
واختيار المخرجة لنموذجين مختلفين بين رجل فنان ملتزم بعمله وكرس نفسه للمظاهر التي تشمل منزلا رائعا وتمضية وقت فراغه في الرياضة، مقابل "هانا" ابنة مهاجرة من تشيكولوفاكيا في مكان عادي في انسبروك، إلى جانب العلاقة "الباردة" التي تربطها بوالدتها.
واختيار آخر ربط  العبارات المستخدمة من اميلي ديكنسون وروني هورن، وهو مصور محترف وصولا لفرانشيسكا ودمان صورة فوتوغرافية أميركية، اشتهرت بأعمالها بالأبيض والأسود التي تلتقطها لذاتها ولنساء آخريات، وجان فرانسوا بيلتر خبير الفلسفة الصينية، لترسم المخرجة أجواء مستمدة من هؤلاء المبدعين ؛على غرار تصوير المنزل من وحي اميلي ديكنسون، وصور هورن التي تعكس البرودة خاصة تلك التي التقطت في ايسلندا خلال مشروع عمل عليه، وكيف ربطت المنظور الخارجي للشخصية مع الداخل، وتوضيح أثر التقسيم الداخلي بين النية وما يدفعنا للعمل كبشر.
وبرغم غياب الحوار إلا أن اللغة البصرية كانت العنصر الأقوى في الفيلم، وبشكل مكثف تناولت فيه جانبا من قضية الهجرة، وكيف تحولت لمنفا داخلي في "هانا"، وكم من شخص يستمر بالعيش بهذه الطريقة قبيل أن يقرر العيش بشكل حقيقي، فيما الشخص الوحيد الذي يمكن أن نعتمد عليه هو نفسه، فلا أحد سيحقق توقعاته سوى ذاته، ومنطقية السعي بجهد لما نريد.
ويفيض الفيلم بالاستعارات الشعرية، التي تجمع بين الطبيعة وإدراك الفرد للمحيط حوله، وهي نقطة التحول الحقيقي، عبر أثر الطبيعة المحيطة بين العواصف المطرية في بعض المشاهد التي استوحيت من أعمال روني هورن، والحيوانات التي تمثل الوعي خاصة استخدام طائر البلشون الرمادي الذي يمثل رمز العودة للمنزل الذي ظهر في المشهد الأخير.
"هنا موطني"، يصب في رحلة البحث عن الذات.. وأن الوطن ليس جغرافيا بل داخل الفرد، لأن الأمور الخارجية تتغير بسرعة، والفن أفضل وسيلة للتعبير عن ذلك.