"الأخ الكبير"..!

علاء الدين أبو زينة تخيل عائلة من إخوة وشقيقات يقطنون بيوتاً متجاورة في حي هو كله مُلك تاريخي متوارث للعائلة. ثم يغزوهم عدو يصادر بيوت القسم الأكبر منهم ويُطردهم منها بالقوة. بعضهم يلجأ إلى بيوت إخوته المتبقية والبعض يخرج من الحي. وبعد فترة، يستولي العدو على ما تبقى من البيوت والحي ويستعبد المتبقين فيها. وعند نقطة ما، وبعد سقوط الكثيرين في الصراع المرير مع العدو، يتنازل الإخوة من الحي الصغير في الغزو الثاني عن منازل وأملاك أشقائهم إلى الأبد مقابل سيادة وهمية والأموال التي يأخذونها لقاء التنازل – ووعد منكوث دائماً بأن يصبحوا شيئاً “مستقلاً” على ألا تكون لديهم أدوات حادة، ويتم الإشراف على حلهم وترحالهم وما يشترون وما يبيعون. هذه صورة تبسيطية للمسألة الفلسطينية –مع تأكيد أن القضية أعقد بكثير- لكنها هكذا في نهاية المطاف. ما أحقية “الأخ الكبير” وعائلته الصغيرة (فصيله السياسي) في التنازل عن منازل بقية الاخوة ومعظم الحي، من دون استشارتهم وعسفاً بحقهم وإرادتهم؟ ثمة شبهة – مبررة تماماً- بأن يكون هذا الأخ الأكبر غير شقيق على الأقل، من أم أخرى، مثل الوصي الذي يموت أبوه ويستبد بملك إخوته، وإلا لما فكّر وتجرأ قلبه على التفريط بحق إخوته وإرث أجداده. هذا هو الخلاف الرئيسي والانقسام المبدئي والوجودي بين الفلسطينيين الآن – إذا جاز اعتبار المتنازلين جزءًا من العائلة. والخلاف وجودي لأن أحد طرفيه يوافق على تجريد لاجئي 1948 من صفتهم البنيوية كفلسطينيين، بالتخلي عن حقهم في العودة والجنسية، و”دبّر حالك في المكان الذي أنت فيه”. ويتطابق هذا الخط بوضوح مع اقتراح العدو توطين اللاجئين الفلسطينيين في الخارج وإنهائهم وجودياً كفلسطينيين. وإلى جانب ذلك، لم يأخذ فلسطينيو التنازل أي شيء، لا دولة ولا أمناً ولا كرامة، مقابل تغييرهم المتآمر على الذات للسردية الفلسطينية والتصديق على سردية العدو. في معرض حديثه عن تنبؤ المؤرخ، بن موريس، بنهاية الكيان الصهيوني. كتب رمزي بارود: “لعل ما تجدر ملاحظته بشكل خاص في تعليقاته (موريس) هو التصور الدقيق بأن ’الفلسطينيين ينظرون إلى كل شيء من منظور واسع وطويل الأجل‘، وأنهم سيستمرون في ’المطالبة بعودة اللاجئين‘. ولكن، مَن هم ’الفلسطينيون‘ الذين يشير إليهم موريس؟ إنهم بالتأكيد ليسوا السلطة الفلسطينية التي همش قادتها سلفاً حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والتي ليس لديها بالتأكيد ’منظور واسع وطويل الأجل‘ للصراع. إن ’الفلسطينيين‘ الذين يتحدث عنهم موريس هم الشعب الفلسطيني نفسه، الذي عملت أجياله، وما تزال، كطلائع لاسترداد الحقوق الفلسطينية، على الرغم من كل النكسات والهزائم و’التسويات‘ السياسية”. من هذا المنظور المعقول، فإن ما يفعله الأخ الكبير الفلسطيني، غير شقيق غالباً، هو مساعدة إطالة عمر الكيان الاستعماري – بل وتأبيده- عن طريق إجهاض ما يرى بن موريس أنه التهديد لبقاء لكيانه، كـ”دولة يهودية” على الأقل: المطالبة بعودة اللاجئين، والمنظور طويل الأجل للصراع. وهكذا، عندما يتعلق الأمر بالنظرة إلى التعامل مع الاستعمار الاستيطاني والحق الفلسطيني، ثمة الشعب الفلسطيني الذي يعرف وجهته ويتمسك بحقوقه ولديه تصور لنهاية الصراع، وثمة شيء منفصل عن هذا الشعب ويعمل بالضرورة ضد مصلحته –بل ويلغي معظمه. لا يكتفي “الأخ الكبير” الفلسطيني بالتصرف بحق أشقائه بلا توكيل. إنه يتصرف على طريقة “الأخ الأكبر يراقبك” في رواية جورج أوريل “1984”. ولا تقتصر الرقابة على قمع حرية التعبير والرأي، وإنما حق المقاومة المقدس. ويراقبك لصالح العدو ونيابة عنه، بل ويدله عليك. وقد أصبحت فلسطين المحتلة المختزلة كياناً دكتاتورياً نموذجياً، وجزءًا من إدارة العدو لاستعماره. ويبدأ الأمر من عدم وجود انتخابات ولا فترات رئاسية، ولا ينتهي بإقصاء فلسطينيي الشتات تماماً من الحسابات، وإعلان الاعتراف بشرعية استعمار أرضهم إلى الأبد. لا يمكن لهذا الانقسام الرئيسي على تعريف الأساسيات أن يصل بالفلسطينيين إلى شيء سوى إطالة أمد الصراع والمعاناة –كما يحدث. ولا بُد من سحب الوكالة المعطاة ذاتياً للتفريطيين، وتكوين هيئة تمثيلية جامعة للفلسطينيين في كل مكان، تحدد الخطاب والمطالبات على أساس المصلحة الوطنية التي لا لُبس فيها. ولعل الأكثر إيلاماً لفلسطينيي الشتات أن يُنتخب من يتحدث باسمهم دون اختيارهم ليكون ما يصرح به هو إلغاؤهم رسمياً فقط. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان