"الأديان" و"الإنسان" والحاجة إلى الاقتصاد في "اليقين" و"المعنى" (2)

د. نارت قاخون

يقول نيتشة: "قليل من الشكّ ضروريّ حتى لا يصير اليقين عمىً".
بعيداً عن "نيتشة" الذي انتهى إلى كثير من الشكّ حتى صار عدميّاً ينفي وجود "الحقيقة" نفسها لا مجرّد نفي إمكان القبض عليها، فإنّ في عبارته ما يستحقّ النّظر؛ فقليل من الشكّ في امتلاك أحدنا "الحقيقة"، وقبضه عليها قبضاً نهائياً كليّاً أمرٌ ضروريّ حتى لا يتحوّل "اليقين" إلى "تطرّف" ثمّ "عمىً" معرفيّ ونفسيّ وإنسانيّ، لا يتوقّف عند إفناء المتيقِّن حياتَه في سبيل ما آمن به، بل يتعدّاه إلى إفناء حياة الآخرين بسعادة نفسيّة وراحة ضميريّة تقرّباً لمفاهيمه التي آمن بها، وتيقّنَ منها دون أن يفسح للشكّ والظنّ مساحة تنفّس احتقان اليقين، وتنزع صاعق الانفجار.اضافة اعلان
والشك الذي أتحدّث عنه هنا ليس الشك في وجود الحقائق نفسها، الذي ينتهي إلى القول بعدم وجود حقائق في هذا الكون؛ فـ"التشكيكيّة العدميّة" تتحوّل إلى مطرقة هدم لا تبقي ولا تذر، غايتها "التقويض" بما هو تقويض، وهي الوجه الآخر للتّطرّف اليقينيّ "الدوغمائيّ"، فكلاهما يمتلئان بفائض من "اليقين" يدفعان أصحابهما إلى "التّطرّف" الفعليّ بعد "التّطرّف" الفكريّ.
الشكّ المطلوب هو قدر من الإنصاف المعرفيّ مع النّفس، ندرك به أنّ ما نتصوّره صواباً وحقيقة لا يبلغ درجة المطابقة مع الحقيقة الواقعيّة حدّ أن نتصوّر امتلاكها وتفرّدنا بإدراكها، فرغم كلّ ما نملك من إجابات تظلّ مساحة من الأسئلة تحتاج إجابات لمّا نجدها بعدُ، وبهذا "الشكّ" نخفف من قابليّة تحوّل أفكارنا ومعتقداتنا إلى طاقة إفنائيّة تهدّد كلّ مختلف ومخالف.
إنّ إدارة اليقين والشكّ تحتاج فقه "الاقتصاد في اليقين" الذي يحمينا من آفتي "الإفراط" و"التفريط"، ويضبط "القيمة الشعوريّة النفيسة" لليقين فلا نهدرها كمّاً ونوعاً. وهذا الاقتصاد يفرضه عند العقلاء إدراكُهم أنّ "اليقين" معطىً نفسيّ وشعوريّ ومجتمعيّ واعتياديّ أكثر من كونه "علميّاً" و"عقليّاً"، فلو راجعنا يقينيّاتنا سنجد أنّها تكون غالباً نتاج فائض في الإحساس والشعور لا نجد ما يوازيه من الأدلّة العلميّة والعقليّة، فالمعارف الدينيّة ليست نتاج معادلات رياضيّة، بل إنّ المعارف العلميّة نفسها ليست كذلك.
وإذا ما نظرنا إلى "اليقين" و"المعنى" معاً، فإنّ درجة حساسيّتهما تزداد كلّما اقتربا من أسئلتنا الوجوديّة الكبرى، وهي أسئلة تختلف إجاباتها باختلاف السياق الزمانيّ والمكانيّ الذي يعيشه الإنسان، ففي مجتمع تشكّل "المعرفة الدّينيّة" أكبر مصدر لإجابات أسئلة الوجود والحياة والغاية الإنسانيّة يكون الاقتراب من هذه الإجابات بالشكّ والنقد محفوفاً بكثير من المخاطر والعوائق، ومرافقاً لكثير من مظاهر "الحساسيّة" و"الاستقطاب"، ولاسيّما حين تتميّز هذه الإجابات بـ"الواحديّة" و"النهائيّة" و"الخلاصيّة الأخرويّة" الفائضة، وهذا ما آلت إليه تجربة "الأديان التوحيديّة" عند كثير من أتباعها، فبدأت بنفي أيّة قابليّة للاعتراف بتصوّر للكون والوجود لا يقوم على مبدأ "الخالقيّة"، ثمّ بنفي أيّة قابليّة لتعدّد "الخالق" و"الإله"، ثمّ بنفي أيّ تصوّر لهذا "الخالق الواحد" إلا ما يقدّمه كلّ دين بوصفه المعطى الصحيح الوحيد والنهائيّ، وحينها لن يُنظر إلى "الإيمان" بوصفه خطّة خلاص فرديّ تقبل التنوّع والاختلاف، بل يصير "خطّة خلاص جماعيّ" وحيدة، ترى في أيّ اختلاف خروجاً عن "الصراط المستقيم"، ومع اختلاف أتباع الدّين الواحد في تفاصيل هذه "الخطّة الخلاصيّة" لا يصبح الانتماء لدينٍ ما كافياً، بل لا بدّ من الانتماء إلى إجابات مخصوصة تقدّمها فرقة أو طائفة أو مذهب أو جماعة، ويصير الاحتراب والاقتتال بين هذه الجماعات تحت راية "الفرقة الناجية" التي تحتكر وحدها الإجابات الصحيحة والنهائيّة التي تحقّق لأتباعها النجاة الأخرويّة.
هذا اليقين الفائض بواحديّة الإجابات ونهائيّتها من جهة، وأخرويّة الخلاص من جهة أخرى، دفع مجموعات من أتباع الأديان إلى "التّطرّف" في مواجهة "التنوّع والاختلاف البشريّ وعدم وفاء الأديان بالخلاص الدّنيويّ في سياقات كثيرة"، ساهم في حدّتها انسداد آفاق الحياة الدنيويّة عدلاً ورخاء، وارتفاع منسوب التهديدات والمخاطر التي تواجه الهويّة الجماعيّة والفرديّة في عالم اختار "إلغاء الاختلافات"، و"إنهاء التنوّع" وسيلة "وحيدة" لإدارة وجودهما، فعوض أن يبقى "المختلفون" مختلفين ولكن بوجود عقد حضاريّ إنسانيّ جامع يعظّم المشترك ولا يخنق المختلف أو يهدّده، صار المطلوب صهر العالم في بوتقة واحدة ليس للنّاس على اختلافهم إلا أحد خيارين: إمّا تبنّي نموذج واحديّ نهائيّ، أو الإقصاء والإفناء. وفي هذا يتجلّى التحالف بين حركات "التّطرّف الدينيّ" وحركات "التّطرّف الرأسماليّ التوحّشيّ التسليعيّ"، فكلاهما ينطلق من الإيمان اليقينيّ بـ"نموذج أحاديّ" للوجود والفعل الإنسانيّين.
مقابل هذا الفهم للخبرة الدّينيّة الذي يتطرّف في احتكار الصوابيّة وإقصاء المختلف الآخر، نجد نزوعاً عند بعض الاتّجاهات الدّينيّة نحو "السيولة الصوابيّة" التي تلتمس المعاني الكامنة وراء الخبرة الدّينيّة بوصفها تجارب في فهم الحياة لا تتنازع بينها، بل تتجاور بوصفها تمثّلات مختلفة متعدّدة لا تلغي تجربةٌ تجربة أخرى، بل تجاورها في إطار من "الإغناء" لا "الإلغاء".
بهذا التّصوّر تقترب "الأديان" من "الأدب" و"الفن"، وتبتعد عن "العلم"، وهو ابتعاد لا يعني التناقض والمنازعة، بل ابتعاد يعني أنّ للأديان أدواراً تختلف عن "العلم"، تقبل أن تكون متوازية دون أن تتقاطع بالضرورة، فإذا كانت التناقضات محظورة في العلم لاستحالة الجمع بين النقيضين في "التفسير"، وهذا مطلب العلم وغايته، فإنّها ليست كذلك في الخبرة الدّينيّة والأدبيّة والفنيّة؛ فالتناقضات في الفهم الدّينيّ مظهر من مظاهر التنوّع غير المحكوم بـ"صوابيّة صلبة" بل "نفعيّة وآثار إيجابيّة".
وهنا أشير إلى أنّ خبرة العلم ناتجة من إجابة أسئلة "ماذا؟" و"متى؟" و"أين؟" و"كيف؟". وهي أسئلة تفرض طبيعتها المعرفيّة إجابات "واحديّة" تقترب من "الحسم"، بينما كانت الخبرة الدّينيّة في المقام الأسمى محاولة لإجابة سؤال "لماذا؟"، وهو سؤال تسمح طبيعته المعرفيّة بالتعدّد والتركيب والاختلاف. وهذا مبحث مهمّ في المقارنة بين "فلسفة العلم" و"فلسفة الدّين".
هذا التّصوّر لـ"الأديان" يجعل "اليقين" مصدر "طمأنينة" ذاتيّة لا تفترض المطابقة مع يقين الآخرين وطمأنينتهم، ولا تفرض عليهم هذا "اليقين" فرضاً، وهو تصوّر لـ"الأديان" يجعل "المعاني الدّينيّة" مقترحات غايتها أن تجعل الحياة ذات معنىً غنيّ يتجاوز ممكنات الإجابات العلميّة والعقليّة الصارمة التي لا تجعل سؤال "الغاية" من أسئلتها، ولتحقيق هذا التّصوّر الدّينيّ لا بدّ من فيضٍ من "التأويلات" تعيد تأويل مرتكزات المكوّنات الدينيّة الكبرى من مفاهيم مثل "الخالقيّة" و"التوحيد" و"الوحيّ" و"النبوّة" و"الكتب المقدّسة" تأويلاً يتجاوز المقاربة الحرفيّة لهذه المكوّنات، وهي عمليّة ليست سهلة، ولها كُلفة معرفيّة ونفسيّة كبيرة لا يلجأ إليها أتباع الفهم الواحديّ النهائيّ الخلاصيّ الاحتكاريّ للدّين "طواعية" عادة، فمَن يؤمن بصواب رأيه بيقين تام لن يقبل التفاوض والعيش المشترك مع المخالف له إلا حين يعجز عن فرض رأيه أو إقصاء مخالفيه، وهنا تأتي خطورة الفكر الإقصائيّ اليقينيّ دينيّاً كان أم غير دينيّ لأنّ القدرة على إقصاء الآخر لا تتوقّف؛ فمن لا يستطيع إفناء "جماعة المخالفين" يستطيع إفناء بعض أفرادهم، ومَن لا يستطيع إفناء المخالف القويّ يستطيع إفناء المخالف الضعيف، ومَن لا يستطيع "الإفناء" لن يعجز عن "الإيذاء"، ومَن لا يستطيع إفناء "وجود المخالف" يستطيع إفناء قيمة وجوده الاجتماعيّة والإنسانيّة.
إنّ الإقرار بالوجود المشترك، وتقليل حدّة اليقين بالمعاني التي نؤمن بها بوصفها المعاني النهائيّة والوحيدة يمنح اختلافاتنا فرصة التحوّل إلى مصدر غنىً وتنوّع إيجابيّ، ويجعلنا أكثر قبولاً لتناقضات الوعيّ والخبرة الإنسانيّة، ويحوّل أتباع الأديان من ضيق "الموت في سبيل ما تؤمن"، ثمّ "قتل المخالف" إلى سعة "الحياة في سبيل ما تؤمن"، و"الحرص على حياة المخالف"، بوصف "الحياة والرخاء الإنسانيّين" مطلباً جامعاً مشتركاً.
قد يرى بعض أتباع الأديان أنّ الدعوة إلى التخلّي عن اليقين المطلق بتفرّد دينهم بالصواب مرفوضة؛ لأنّها تجعل الأديان "ديناً بلا دين"! فلا بأس من الدعوة إلى "إرجاء الحسم والمحاسبة" إلى "اليوم الآخر" الذي يتفرّد بالحكم والملك فيه "إلهٌ" يؤمن أتباع الديانات التوحيديّة بعدله ورحمته المطلقتين.