"الأديان" والحاجة إلى "اليقين" و"المعنى": بين "الطمأنينة" و"التّطرّف" (1)

د. نارت قاخون

يسعى الإنسان غريزيّاً إلى "الطمأنينة"؛ فالشكّ والقلق والاضطراب والخوف عوارض نفسيّة مرهقة تدفع الإنسان، فرداً وجماعة، إلى إزالتها والتّخلّص منها. وفي سبيل هذا الخلاص وجد الإنسان عبر خبرته التاريخيّة أنّ "الثقة" و"المعاني والغايات" هي أكثر السبل نجاعة في الخلاص من هذه العوارض وبلوغ "الطمأنينة"؛ فالثقة مرحلة تسكن فيها آلام أسئلة "الشكّ" و"الريبة" الحارّة، لتحلّ محلّها إجابات "اليقين" وبرده، وفي الوقت نفسه يحتاج إلى إجابات لسلسلة طويلة من أسئلة "لماذا؟" حتى يجد "المعنى" و"الغاية" من كلّ شيء يختبره في الحياة، ابتداء من الأسئلة الكبرى مثل: لماذا كانت الحياة؟ ولماذا نعيش ونموت؟ وما الغاية من أفعالنا؟ وما معناها؟ وانتهاء بأقلّ أفعاله وخبراته.اضافة اعلان
لا تشكّل أسئلة "اليقين" و"المعنى" أسئلة ترفيّة جانبيّة في الحياة الإنسانيّة، بل هي أسئلة ارتبطت بوجوده "العاقل والواعي" ارتباطاً جذريّاً، حتى صار افتراض حياة الإنسان دون إجابات لها عسيراً إن لم يكن مستحيلاً.
 يقدّم عالم النفس والأعصاب النمساويّ "فيكتور فرانكل" أطروحة في البحث النفسيّ تقوم على أنّ المحرّك الرئيس والدافع الحاسم في الحياة الإنسانيّة هو "البحث عن المعنى". فتجاوز بذلك مفهوم "إرادة اللذّة" عند "فرويد"، و"إرادة القوّة" عند "آدلر"، إلى مفهوم "إرادة المعنى"، ممّا جعل "فرانكل" مؤسّس "مدرسة فيينا الثالثة في العلاج النفسيّ". ولست أريد الخوض هنا بنقاش في علم النفس وتفاصيله التي تتجاوز ممكنات مقال في صحيفة، ولكن ألتقط هذا المقترح لبيان مدى أهميّة "الثقة واليقين" و"المعنى" لبلوغ الإنسان مرحلة "الطمأنينة النفسيّة"، مشيراً إلى أنّ "فرانكل" يرى في كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى" أنّ غياب المعنى يُعدّ السبب الأكبر للإقدام على "الانتحار"، لأشير لاحقاً إلى أنّ الامتلاء الفائض بـ"المعنى"، وإحالة "المعنى الحقيقيّ" لعالم ما بعد الموت سيشكّلان أهمّ أسباب قتل النفس والآخرين بما يُعرف بـ"العمليّات الانتحاريّة" التي تتجاذبها أسماء أخرى مثل "العمليّات الفدائيّة" أو "الاستشهاديّة" تعبّر عن الموقف من هذا الفعل لا مجرّد وصفه.
تأسيساً على الحاجة الجوهريّة لـ"اليقين" و"المعنى" نسأل: أين يلتمس الإنسان في خبرته مصادر يقينه ومعاني وجوده؟
على المستوى الماديّ المباشر، نجد أنّ الإنسان حمى نفسه من الخطر والقلق بأساليب القوّة الجسديّة، ثمّ قوّة إيذاء الآخر وإخافته بأسلحة متعدّدة، واتّخاذه أسباب المنعة والحماية من جدران وأقفال وأبواب وأسوار، والتعاون الجماعيّ. وهي وسائل تمنح له الإبقاء على حياته، ولكنها لا تعطيه إجابات عن أسئلته الكبرى، ولا تفي جواب سؤاله عن معنى الحياة التي يُريد إبقاءها.
هنا يبرز "الدّين" بوصفه أحد أهمّ مؤسّسات "اليقين" و"المعنى" في الخبرة الإنسانيّة. فعلى الرغم من مزاحمة "العلم" و"الفلسفة" و"الفن" لمؤسّسة الدين في محاولات الإجابة عن أسئلة اليقين والمعنى قديماً وحديثاً، وهي "مزاحمة" لا تعني "التناقض" و"التّضادّ" بالضرورة، فلا يزال "الدين" أكثر هذه المقترحات استجابة لإلحاح هذه الأسئلة والحاجة النفسيّة إلى الطمأنينة، بغض النّظر عن تفاضل إجابات هذه المقترحات وحظّ كلٍّ منها من الصواب؛ فالقضيّة المؤثِّرة في الإنسان هي مدى قوّة إحساسه "النفسيّ" باليقين والمعنى أكثر من مدى صحّة هذا اليقين وهذا المعنى معرفيّاً.
تقدّم الأديان إجابات لأسئلة "اليقين والمعنى" تبدو ممتلئة بهما؛ فهي تقوم على ثقة الأتباع ثقة تامّة ويقينيّة وافرة بالمكوّنات الكبرى لكلّ دين؛ فالمسلم مثلاً يتأسّس انتماؤه للإسلام بيقينٍ بوجود الله ووحدانيّته وكمال صفاته، ثمّ بيقين بنبوّة محمّد عليه السلام وصدق رسالته، ثمّ بيقين بربانيّة "القرآن" وصوابه بوصفه وحياً من الله إلى نبيّه الكريم، يحوي "الخُطّة النهائيّة والمحكمة" للخلاص الإنسانيّ. ثمّ يتوالى يقينه بأمور أخرى ناتجة عن هذه اليقينيّات الكبرى، ومنها أنّ الموت ليس نهاية الرحلة الإنسانيّة، بل هو مجرّد انتقالة من عالم إلى عالم آخر.
هذه اليقينيّات وفرّت للمسلم إضافة إلى الثقة وفرةً وغنىً في "المعنى" أو "المعاني" أيضاً، وهي وفرة مكّنت جموعاً من البشر أن تخرج من تيه "صحراء المعنى والطمأنينة" التي كانت تعانيها قبل الإسلام إلى "جنّة المعنى والطمأنينة" حين قدّم له الإسلام رؤية جامعة كبرى تمنحه المعاني وثمارها من الطمأنينة بوفرة، وهي سمة عامة في "الأديان التوحيديّة" كما يقول "لابيدس" في كتابه "تاريخ المجتمعات الإسلاميّة"، فيقول مقارناً بين مجتمع الوثنيّة وتعدّد الآلهة من جهة، ومجتمع التوحيديين من جهة أخرى: "كانت كثرة الآلهة تعكس وترمز إلى نظرة متشظيّة إلى طبيعة الإنسان والمجتمع وجملة القوى الممسكة بأدوات إدارة الكون. ومن وجهة النّظر الوثنيّة كانت النفس بلا مركز، وكان المجتمع بلا كيان كليّ، وكان الكون بلا معنىً إجمالي شامل... وهكذا فإنّ التوحيديّين كانوا شديدي الاختلاف عن المشركين في إحساسهم بـ"وحدة الكون وبانطواء التجربة الشخصيّة على معنىً". ففي حين لم يكن المشركون يستطيعون أن يروا سوى عالم ممزق، مؤلّف من عدد كبير من القوى الفوضويّة والعشوائيّة، كان التوحيديّون يرون الكون كياناً كليّاً متجذّراً في كيان واحد، ومخلوقاً ومحكوماً من قبل هذا "الكيان" الذي هو مصدر النّظام على الصعيدين الماديّ والروحيّ كليهما. وفي حين أنّ المشركين كانوا يتصوّرون مجتمعاً ينقسم فيه النّاس إلى عشائر ويتوزّعون على مناطق، لكلّ منها جماعتها وآلهتها الخاصة، فإنّ التوحيديّين تخيّلوا مجتمعاً أدى فيه "الإيمان المشترك" إلى جعل البشر إخوة وأشقاء في السعي إلى "الخلاص". وفي حين أنّ الكائن الإنسانيّ في النظرة القائمة على الإشراك وتعدّد الآلهة سلسلةٌ من القوى المتنوّعة دون أيّ مركز معنويّ أو نفسيّ نتاجاً للأقدار، فإنّه في النّظرة التوحيديّة "مخلوق أخلاقيّ معنويّ هادف"، غايته النهائية هي "الخلاص". في نظرة الديانات التوحيديّة ليس الربّ والكون والإنسان والمجتمع إلا أجزاء لكلٍّ واحدٍ ذي معنى".
إذن، قامت الأديان التوحيديّة ومنها الإسلام بتوفير "الثقة واليقين والمعنى" بوحدة الوجود الإنسانيّ، ووحدة الهدف والمعنى القائم على "الخلاص". ولكن كيف تتحوّل هذه الوفرة إلى أسباب لتفكيك الوحدة البشريّة، وتشظية معنى "الخلاص" الجامع؟
هنا أقترح عدّة أمور سأتناولها بشيء من التفصيل في الجزء الثاني من المقال منها: "التّطرّف في اليقين والمعنى"؛ فإنّ التّطرّف في محلّ اليقين "كمّاً ونوعاً" يدفع "الرؤية التوحيديّة" إلى النزوع نحو رفض الاختلاف والتنوّع، فـ"التوحيديّة" رغم إقرارها بوحدة "الوجود الإنسانيّ" إلا أنّها تقبل -حين يتدخّل عامل "التّطرّف اليقينيّ"- بأن تتحوّل إلى قوّة طاردة لمن هم خارج التصوّر التوحيدي أولاً، ثمّ مَن هم خارج التّصور التوحيديّ "الخاص" ثانياً، فلا يُصبح "التوحيد" وحده كافياً، بل لا بدّ أن يكون توحيداً بدينٍ معيّن، ثمّ مذهبٍ معيّن، حتى يصير "الخلاص" قصراً وحصراً على "اتّجاه معيّن" في مذهبٍ بعينه.
ومنها أنّ وعود الأديان بـ"الخلاص" تحوّلت بفعل التجربة الإنسانيّة إلى "وعود بالخلاص الأخرويّ" حصراً، ممّا جعل "الأديان" عند كثير من متمثّلي خطاباتها تنسحب من إجابات "الخلاص الدنيويّ الناجز" إلى وعود "الخلاص الأخرويّ المؤجّل".
هذان العاملان وعوامل أخرى سأتناولها في المقال القادم، لعلّها ترسم محاولة إجابة عن سؤال "تحوّل الأديان -التوحيديّة عموماً والإسلام خصوصاً- من مؤسسّات لـ"الطمأنينة والمعنى والوحدة الإنسانيّة والخلاص العام الدنيويّ والأخرويّ" إلى مؤسّسات لـ"التّطرّف وإفناء المعنى والوحدة والوجود الإنسانيّين، والخلاص الإقصائيّ الخاصّ المختزَل بالأخرويّ" أحياناً، مشيراً بوضوح إلى أنّني أتحدّث عن "أفهام أتباع الأديان وممارساتهم وتجليّاتهم في التاريخ والواقع" لا عن "الأديان نفسها" بوصفها مؤسّسات لـ"الطمأنينة والمعنى والخلاص"، وهذه الإشارة إجرائيّة غرضها الاحتراس والاحتراز من حمل الكلام على غير معناه ومقصده. ومشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ هذه التحوّلات ليست مقتصرة على "الأديان"، بل تقع فيها جميع مؤسّسات "المعنى واليقين" حتى تلك التي تتطرّف في نفي وجودهما كـ"الإلحاديّة العبثيّة" و"الجحوديّة الجذريّة".