الأردن.. إسلامية أم علمانية؟!

قدّمت الورقة النقاشية الملكية السادسة تصوّراً عميقاً توافقياً لهوية الدولة الأردنية، واشتبكت مع السجال الحالي المحتدم في الأوساط السياسية والثقافية بين دعاة الدولة المدنية والعلمانيين من جهة، والتيار المحافظ من جهة أخرى.اضافة اعلان
حدّد الملك الهوية المطلوبة بأنّها "دولة مدنية"، وعرّفها بأنّها "دولة القانون التي تستند على حكم الدستور وأحكام القانون، في ظل الثوابت الدينية والشرعية، وترتكز على المواطنة الفاعلة، وتقبل بالتعددية والرأي الآخر، وتحدد الحقوق والواجبات دون تمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو اللون أو العرق أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري".
قبل ذلك، قدّم الملك مؤشرات الدولة المدنية، وهي دولة المؤسسات، وفصل السلطات؛ دولة التسامح والتعايش، وحماية الحقوق والحريات، وكفالة الحرية الدينية، وضمان التعددية وحرية الرأي الآخر.. إلخ.
بخصوص الجدل حول العلمانية والدين، أشارت الورقة إلى أنّ الدولة المدنية ليست مرادفة للعلمانية، بمعنى إبعاد الدين عن المجال العام، فـ"الدين عامل أساسي في بناء منظومة الأخلاق والقيم المجتمعية، وهو جزء لا يتجزأ من دستورنا".
هذه معالم هوية الدولة الأردنية، ومن المفروض أن نبني عليها تصوّرنا للمرحلة المقبلة. ومن المفترض أن تخرج بنا الورقة من السجال العقيم بشأن المصطلحات والثرثرة غير المفيدة، إلى المضامين الإجرائية المطلوبة. والمؤشرات التي ذكرها الملك أحسب أنّها توفّر "أرضية صلبة" لضمانات عميقة للأطراف كافة؛ العلمانيين والليبراليين ودعاة الدولة المدنية الذين يخشون على التنوع والحريات الفردية والعامة والحريات الدينية، والإسلاميين الذين يخشون على هوية الدولة، بخاصة بعد الأحداث الأخيرة ومعركة الكتب المدرسية التي ما تزال مفتوحة.
للعلمانية والدولة الإسلامية على السواء، كما أشرنا سابقاً، عشرات التعريفات، ولهما مفاهيم متعددة، قد تتضارب. فالعلمانية الأميركية ليست مثل العلمانية الفرنسية، على سبيل المثال؛ والعلمانية الهولندية لها خصوصيتها، والعلمانية التركية الأردوغانية ليست مثل العلمانية الأتاتوركية. والدولة الإسلامية الطالبانية أو الداعشية ليست مثل الدولة الماليزية أو التركية، وهكذا؛ فنحن أمام نماذج وأمثلة ومفاهيم متباينة ومتناقضة، والأفضل أن ندخل إلى ما نريده نحن ويشكّل إجماعاً وطنياً، يستنبط لنا روح الدولة وحلمها من تاريخها ومصالحها وثقافتها الاجتماعية.
التعريف، في نظري، واضح. الأردن ليس دولة دينية بالمعنى الثيوقراطي، أي الحكم باسم الله، ولا هي مذهبية بالمعنى المعروف في إيران، ولا هي أصولية بالمعنى الطالباني؛ هو دولة إسلامية بالمعنى المنفتح المتسامح المعاصر، وهو في الوقت نفسه ليس دولة "علمانية ثورية" ضد الدين، أو معادية للرموز الدينية والروحية، وتقوم على إقصاء الدين من المجال العام، بل دولة تقوم على منح الدين دوراً روحياً وقيمياً وتشريعياً بما ينسجم مع تطوير المجتمع وبناء الدولة والفهم الاجتهادي المنفتح.
تلك القاعدة ليست جديدة، نظرياً؛ فهي التي تقوم عليها السياسة الأردنية تاريخياً. وكنت قد نشرتُ دراسة مستقلة عن هوية الدولة الأردنية، قبل أعوام، بعنوان "العلمانية المحافظة: النموذج الأردني في إدارة العلاقة بين الدين والدولة"، مستنطقاً السياسة والتشريعات والخبرة الأردنية، لأصل إلى أنّ الأردن دولة علمانية، بمعنى الفصل بين المؤسسات السياسية والدينية المعاصرة، تحترم القيم الدينية وتمنحها حضوراً في المجال العام، بما يخلق معادلة مهمة استثنائية في التوازن بين القيم الروحية والأخلاقية والدين من جهة، والحريات العامة والشخصية من جهة أخرى.
الطريف أنّ ما سميته "النموذج الأردني" في إدارة العلاقة بين الدين والدولة، حظي باهتمام من أوساط دبلوماسية عديدة وباحثين غربيين، واتصل معي سياسيون من آسيا الوسطى يؤكدون على أهمية هذا النموذج في فك معضلة الهوية في دولهم الناشئة المنبثقة عن الاتحاد السوفيتي، فيما عاد مثقفونا يريدون اختراع العجلة من جديد!