الأردن الممكن

بدءاً من عنوانِ كتابهِ الصادرِ حديثاً «الأردن الممكن» يَضعُك المُفكِر إبراهيم غرايبة في حالةِ تحفزٍ ذهنيٍ، فهل الحديثُ عن الممكنِ في الأردنِ هو حديثٌ عن إمكانياتٍ متاحةٍ؟ أم أنه حديثٌ عن فرصٍ ضائعةٍ؟ هل هذا الكتابُ إصلاحيٌ نقديٌ أم أنه سرديٌ تاريخيٌ؟اضافة اعلان
والحقيقةُ أن مقدمةَ الكتابِ الذي صدرَ مؤخراً عن وزارةِ الثقافةِ والشبابِ ضمنَ البرنامجِ الوطنيِ للقراءةِ / مكتبة الأسرةِ الأردنيةِ تصلحُ أن تكونَ خاتمةً وتلخيصاً شاملاً للكتابِ كما أنها تحدد الأطرَ العامةَ لمشروعٍ فكريٍ يطرحهُ الكاتبُ على نفسهِ، وعلى القارئ، وعلى «عقلِ» الدولة، يستهدفُ هذا المشروعُ استئنافَ النظرِ في الأردنِ كمفهومٍ إنسانيٍ سياسيٍ تاريخيٍ، أو لربما البدءُ بهِ، «مشروع يحاولَ أن يسهمَ في إنشاءِ علاقةٍ إيجابيةٍ مع المكانِ والمواردِ» علّنَا «نرى أنفسنا ونُنشئَ وعينا لذاتنا كما نحبُ أن نكونَ».
في تناوله «الرواية المنشئةِ والفكرةِ الجامعةِ» قد تكون غابت الفكرةُ الجامعةُ، ولهذا يحاول الكتابُ أن يبدأَ النظرَ، ويستحضرُ أهميةَ الفهمِ الثقافيِ في السياسةِ، ذلك أن «التقسيمَ بين السياسيِ والثقافيِ لا ينسجمُ مع المفهومِ العلميِ والحقيقيِ للسياسةِ والثقافةِ»، وهو ما قد يكون أدى إلى «خواءِ الحياة السياسية ….» حيث «مرت عقودٌ على العملِ العامِ والسياسةِ العامةِ، وتخطيطِ العلاقةِ بينَ الدولةِ والمجتمعاتِ والأسواقِ، تُكرسُ الانفصالَ عن الواقعِ ثمَ الاستعلاءَ عليه».
في المكانِ يبدو الإرثُ والتراثُ طريق الكاتبِ لتأكيدِ الأصالةِ ليسَ باعتبارها زهواً وافتخاراً، بل بما يمثله المكان كحاضن لبناء الهويةِ بمعناها الإنسانيِ، باعتبارها «مركز الحقيقة حيث يصادف المرء أن يكون …»، وقد صادفَ وجودُ الأردني الإنسان في كيانِ الحضارةِ الآراميةِ التي قد «تكون المكون الأكثر وضوحاً في التأسيس للحضارةِ في الأردن وشرق المتوسط».
الدعوة للمكان هي دعوةٌ لوعي الذات والواقع، لتشكيلِ مفاهيم وقيم حضارية جامعةٍ لكلِ مكوناتِ الشعبِ الأردني، تجعل من المكان ليس فقط المكوِن الجغرافي للدولة بمعناها القانوني، بل باعتباره الكيان الحضاري للفرد بكل إمكانياته الذاتية والمجتمعية للبقاء والتمدن.
في المستقبلِ يخلصُ الكتابُ لصياغةِ «منظومةٍ معرفيةٍ وفكريةٍ للتقدمِ»، مثل «فرديةٍ اجتماعيةٍ فاعلةٍ ومؤثرةٍ» و «تنظيم اجتماعي وأخلاقي يلتزمُ بقيمِ الأسرةِ والمجتمعِ دون إخلالٍ بالحرياتِ والحقوقِ الشخصيةِ»، كما ختم الكتابُ مشروعه في المستقبل، بوضعِ قواعد للعشقِ أربعين، قواعد وأسس لبناء الوطن، غلبت عليها الشعاراتيةِ العامة أكثر من كونها نتائج مستخلصة من «ممكن المكان والزمان» أو من توقِ ونضالِ الإنسان في مكونهِ المكانيِ والزمانيِ.
الواقعُ أن هذا الكتاب لا يمكن أن يُختصرَ في مقالٍ ولا يجب أن يقتصرَ على مقالةٍ أو ندوةٍ، إنه بمثابةِ «ورقة وطنية»، يمكن أن يبدأَ بها حوارٌ وطنيٌ ثقافيٌ سياسيٌ، وفيه محطات كثيرة فيها من النتائجِ الجاهزةِ أكثر من التحليلِ العلميِ المنطقيِ، الدالِ على تلك النتائج والنهايات، الأمر الذي يحتاجُ إلى كثيرٍ من التحري والحوار، ومن جانبٍ آخر فإن الكاتبَ مسكونٌ بذهنِ أن الإنسانَ الأردنيَ، غابَ أو غُيب عن حالةِ الوعيِ الآزمةِ أو المتوقعةِ عند تأسيس الدولِ وتشكيلِ الشعوبِ، والكاتب من اللاوعية الساطع هذا، يبدأُ مشروعه في عمليةِ إعادة اكتشافٍ المكان والزمانِ والتاريخِ ليعلن أن الدولةَ ليست مبرراً للإنسانِ بل إن إمكانيات الإنسان والزمان والتراث هي مبررُ الدولةِ، وأن وجود الإنسان الأردني كواقعٍ تاريخيٍ وجغرافيٍ وحضاريٍ وجودٌ سابقٌ على فكرةِ الدولةِ، وكأنه في ذلك يرد على كثيرٍ من المقولات التي وصمت الأردن بالوظيفية، وبأنه كيانٌ مخلوقٌ مُحدثٌ وليس قديماً مكرساً.
الكتابُ تجنبَ الخوضَ في مفاصلِ المشهدِ الأردنيِ «المعاصر»، ومع ذلك فإن «الأردن الممكن» مشروعٌ في كتاب، وكتاب يمكن أن يبدأ منه حوار سرديةِ الأردن في مئويته الثانية، كتابٌ يمكن أن يمثلَ أرضيةً أوليةً للفهمِ الثقافيِ السياسيِ، هي ضرورية لبدءِ الحوار بين الناس، فإنَ أكثرَ ما يدورُ الآن هو حوارُ طرشانٍ مفعمٍ بالصراخِ أكثرَ من الفهمِ، فاهم علي جنابك؟