الأردن يدفع ثمن "البلطجة" بالجامعات


شعرت بالخجل وأنا أشاهد مقاطع فيديو عن مشاجرة الجامعة الأردنية؛ تهيأ لي للوهلة الأولى أن هؤلاء فرقة "كوماندوز" تستعد لمهاجمة عدو على أنغام صيحات تحشيد وانتقام. اضافة اعلان
وتراءت أمامي في ذات اللحظة صورة حشد الطلبة في العام الماضي أمام رئاسة الجامعة الأردنية يهتفون نشيد موطني بكل انضباط وسلمية حين اعتصموا مطالبين بالتراجع عن رفع قرار رسوم الدراسة في الماجستير والموازي.
الصورتان لذات الجامعة وبالتأكيد ليس لنفس الطلبة، في الأولى يحملون سيوفاً ويطلقون رصاصاً سواء من مسدسات صوت أو مسدسات حقيقية، ويكيلون الشتائم، ويكسرون ممتلكات الجامعة، ويعتدون على الطلبة، وفي الغالب الأعم يكون وراء المشكلة تلاسن بين طالبين، وهو أمر يحدث في كل مكان، ولكن هنا داخل أسوار الجامعات الأردنية تعلن حالة النفير والتعبئة العامة، ويستغيث الطلبة بأهل "الهمة" من العشيرة للفزعة ونصرتهم في مواجهة ابن المنطقة أو العشيرة الأخرى فتندلع معركة تعيدنا قروناً إلى زمن داحس والغبراء.
أما الصورة الثانية فهي لطلبة يتجمعون ويحتشدون لا خلاف بينهم، أنما توحدهم شعارات مطلبية كرفض رفع رسوم الساعات الدراسية، وربما تكون سياسية احتجاجاً على موقف حكومي مثل صفقة الغاز، وفي كل الأحوال فإن الطلبة لا ينساقون لاستفزاز طلبة موالين لإدارة الجامعة أو الأمن الجامعي الذين يعملون بجهد للاشتباك معهم لحرف مسار قضيتهم وإظهارهم بأنهم "بلطجية".
وللأسف فإن إدارات الجامعات والحكومات وأجهزتها الأمنية على مدار عقود طويلة كانت تخشى الحركات الطلابية المنتظمة، رغم سلميتها وحضاريتها والقدرة على الحوار مع قادتها، وتقمع هؤلاء بعنف وتتخد كل التدابير لوأدهم، وتستخدم القانون بشكل غير عادل لاتخاذ عقوبات بحق الطلبة البارزين في هذه التحركات تصل إلى الفصل النهائي، هذا ان لم يعتقلوا على أبواب جامعاتهم.
ما أقوله ليس من التاريخ رغم كثرة الشواهد على هذه السياسات، بل من الحاضر القريب ولكم في قرار الجامعة الهاشمية بفصل الطالب إبراهيم عبيدات أنموذجاً.
الطلبة الذين تتخذ إدارة الجامعات عقوبات بحقهم بسبب احتجاجات طلابية تعترض على سياسات الجامعة أو الحكومة لا تهاون معهم، ولا وساطات يمكن أن تلغي العقوبات بحقهم، في حين أن مراجعة سجل العقوبات بحق طلبة استباحوا جامعاتهم بالعصي، والسيوف وكسروا ممتلكاتها ستجد أن كثيراً منهم إما ألغيت العقوبة أو خفضت والمعيب أن غالبية الذين تواسطوا كانوا نواباً وربما أعياناً ووزراء سابقين.
لم تحل مشكلة البلطجية في الجامعات الأردنية وما حدث في العام الماضي من تراجع لأحداث الشغب والمشاجرات لم يكن أكثر من هدنة مؤقتة، وكما يقولون في الأمثال "عادت ريما لعادتها القديمة"، فانطلقت أول شرارة من الجامعة الأردنية بغض النظر عن اتهامات إدارة الجامعة للإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بالمبالغة في الأمر، وبأن الرصاص الذي أطلق كان من "مسدس صوت".
تعود الأزمة لأن الدولة حتى الآن لم تعالج جذور المشكلة، والحكومة وإدارات الجامعات تدرك قبل غيرها الخطوات الضرورية للبدء في العلاج، وهي تتخوف وتتردد من العصف بسياسات القبول الظالمة والقائمة على الاستثناءات تحت ذرائع مختلفة، فأورثت بيئات طلابية الحقت ضرراً بالغاً بصورة الجامعات الأردنية.
وحتى لا نلتفّ على الحقيقة فإن سياسة القبول الجامعي كانت ممنهجة، وتديرها الدولة بمعرفة ودراية لتغير الواقع الطلابي ومواجهة الحركة الطلابية المسيسة، وإن كان هذا الأمر مفهوماً في السبعينيات والثمانينيات وكان حاسماً في ضرب الحركة الطلابية في الجامعتين الأردنية واليرموك، فإن الاستمرار بهذا التوجه بعد إلغاء الأحكام العرفية العام 1989 وعودة الحياة البرلمانية والتصالح مع كافة الأحزاب التي قبلت أن تعمل تحت عباءة النظام السياسي بكل تلاوينها، يعني الإصرار وقبول الحصاد الكارثي والضرر الذي يلحق بسمعة الأردن حتى لا تنهض حركة طلابية ويستمر العبث الجهوي والعصبوي.
يدفع الأردن، وتدفع الجامعات الآن كلفة سياسات الدولة التي رعت وغذت النزعات العشائرية بين الطلبة، ولكن هذا المارد لم تعد السيطرة عليه ممكنه وما عاد التحكم به "بالريموت كنترول" سهلاً، ولم يعد يلتزم بالسيناريو والأوامر، فمن يخضعه من جديد ويعيده إلى قمقمه؟