الأزمات مستفحلة والحلول مستعصية

ليس لدي شك في أن المشتغلين مثلي في الصحافة والإعلام، ويتعاطون السياسة كشأن عام، يتعرضون إلى ما أتعرض له من أسئلة حائرة، يمطرهم بها أصدقاء ومعارف وأناس عابرون، يلقاهم المرء في مناسبات اجتماعية مختلفة؛ أسئلة تدور في معظمها إما حول ظواهر محلية مقلقة ناجمة عن مصاعب اقتصادية مزمنة، وإما حول ما يجري في المحيط العربي المجاور من وقائع وتطورات يصعب فهمها أو سبر أغوارها، حتى بالنسبة لسدنتها وللمكتوين بنارها الملتهبة.اضافة اعلان
لدي، على المستوى الشخصي، وجهة نظر مستقرة منذ نحو عامين على الأقل، هي أن جميع الأزمات في المنطقة العربية، بلا استثناء، باتت مستفحلة، وأن حلولها المأمولة أصبحت مستعصية؛ وأن هذه الفرضية التي صادقت وقائع السنوات الماضية على صحتها، ما تزال قائمة ومتمتعة بكامل زخمها إلى اليوم. وعليه، فإن ما كان صحيحاً في الماضي القريب، يصح كذلك في المدى المنظور، طالما أن المعطيات الرئيسة الحاكمة لأي من هذه الأزمات لم تتبدل في واقع الأمر.
تمتلك هذه الفرضية المتشائمة قدرة هائلة للدفاع عن سلامة منطقها الذاتي، ولديها ما يكفي من الدلائل القوية على صلابة المحتوى النظري المؤسس لهذا الواقع الذي يراوح حول نفسه بعناد شديد. وليس أدل على ذلك من استمرار سائر الأزمات المتفجرة في العالم العربي، رغم كل ما تم بذله من جهود ومساعٍ، وجرى عقده من مؤتمرات واجتماعات، لم يقدم أي منها أو يؤخر في شيء؛ فلا حلحلة هنا أو اختراق هناك، بل إن الأمور تزداد استفحالاً يوماً بعد يوم.
ولعل السؤال الموجع هو: لماذا تبدو أزمات هذه المنطقة مستفحلة إلى هذا الحد، وحلولها عصية طوال الوقت، مع أن كثيراً من الأزمات المشابهة في مناطق أخرى من العالم، كانت تجد طريقها إلى التسويات المرضية في نهاية مطاف قصير؟ هل هذا الأمر ناجم عن تعقيدات أشد، أم إن الحلول المرغوب فيها لم تنضج بعد، رغم كل هذه الدماء المسفوحة بسخاء، أم إن كثرة اللاعبين، وحدة التناقضات بين مصالح الأطراف المتدخلة في هذه النزاعات، تحول دون الوصول إلى تسويات قابلة للحياة؟
الحق أن كل هذه الاسئلة، وغيرها من التساؤلات المشروعة، صحيحة إلى أبعد الحدود، خصوصاً ما تعلق منها بمسألة اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين أمدوا صراعات المنطقة بكل أسباب الاستمرار، وظلوا يشعلون النيران كلما خمدت جمراتها أو ذوت تحت الرماد، إلى حد خرجت فيه معظم هذه الأزمات عن نطاق سيطرة القوى المحلية المتورطة في هذه الصراعات، فدخلت في طور ما يسمى الأزمات المستفحلة كالقنابل العمياء.
هل نحتاج إلى دليل عياني ملموس لإثبات صحة هذا الاستنتاج، أكثر من إجراء مراجعة سريعة لتطورات الأزمة الهيكلية في العراق، أو الإطلال بعين خاطفة على مجريات الحالة السورية المحتدمة آناء الليل وأطراف النهار، كي نعي ونرى بأم العين كيف انزلقت الأزمة في كلا البلدين من سيئ إلى أسوأ، وسط عجز أطرافها المحلية المباشرة عن التحكم بمسار الأحداث التي يبدو أن الأشد بؤساً منها لم يأت بعد، رغم هول ما جرى خلال السنوات الدامية؟
وإذا كان صحيحاً أن الأزمتين المستفحلتين في كلا البلدين العربيين في المشرق (سورية والعراق) معقدتان إلى أبعد الحدود، بفعل تناقض مصالح القوى المحلية، وحسابات الأطراف الخارجية، فما بالك ببلد مثل ليبيا لا توجد فيه طوائف ومذاهب، ولا أزمة هوية ومواطنة، ورغم ذلك كله تزداد أزمته استعصاءً، وتذهب كل الجهود المبذولة لتسوية أوضاعه سدى مع الرياح!
إزاء ذلك كله، فإن أفضل ما يمكن التعلل به من آمال واقعية، ليس البحث عن حلول لم تنضج مكوناتها في الواقع، أو يحن أوان انضاجها بعد، وإنما العمل على تبريد حدة هذه النزاعات بالمراهم، وتخفيف آلام المستهدفين بالمسكنات، والتوافق على إدارتها بالحد الأدنى من العذابات، إلى أن يقع متغير ذو وزن مرجح، يؤدي إلى استبدال قواعد اللعبة الجارية، ويحدث فرقاً نوعياً، يفضي بالضرورة الموضوعية إلى إحداث خرق في جدار هذه الأزمات الناجمة أساساً عن خلل في توازنات القوى المتصارعة على كل شيء.