الأزمة أكبر من السياسة

لا أحد يريد أن يعترف بحجم الأزمة الثقافية التي تحياها المجتمعات العربية والإسلامية، وكيف أن هذه الأزمة تفسر مصفوفة معقدة من الأزمات السياسية والاقتصادية التي تتراكم منذ عقود؛ ما ينقل البحث من الحقل السياسي إلى الحقل الاجتماعي الثقافي، الأمر الذي يتطلب بالتالي إعادة اكتشاف الشرعية السياسية وتعريفها من جديد، بعيدا عما تعودنا عليه من الولاء للسلطة، إلى الولاء للدولة والطاعة للقوانين وتأييد الأهداف التوافقية الكبرى.اضافة اعلان
إن مصادر الشرعية تتجدد، وهي حالة سياسية تعكس الموقف الاجتماعي والثقافي. وما قضية الديمقراطية والمشاركة السياسية وتداول السلطة، إلا أحد تعبيرات أزمة الشرعية وليست الأزمة بأكملها. بل هي أكبر من كل ذلك، وقد تصل إلى حد تدمير الأسس المعنوية والمادية المنتجة للجماعة كجماعة؛ ما يجعل الجماعة والوجود المادي للأفراد والدولة التي تمثل إطارهم السياسي في مهب الريح. أليس ما يحدث في ليبيا والعراق واليمن، وحتى في لبنان وفلسطين اليوم، المثال الراسخ لأزمة الشرعية التي وصلت إلى هذا الحد.
المجتمعات العربية لا تعيش اليوم مشهد الفراغ الاستراتيجي، وغياب المناعة، وتراجع القدرة على الاشتباك مع العالم بحثاً عن المصالح الوطنية، بما يعنيه الاشتباك من صعود أو تراجع؛ بل هي تحيا مشاهد متقطعة، معظمها ينتهي بالاندحار. وربما سيُنظر لاحقا إلى هذه المرحلة على أنها شكلت أقسى لحظات الأزمة الثقافية، والتي تبرز تداعياتها في أزمات الشرعية والمواطنة والهوية. إذ يقاد الأفراد إلى فجوة نفسية عميقة، وغربة مريرة يزداد فيها الشعور بأن هذه الأوطان ليست لهم.
لقد جسدت فعاليات السنوات الثلاث الماضية من التنظير والممارسة في محاولات تعبيد الطريق المتعثرة نحو الديمقراطية والتغيير السلمي في العالم العربي، حالة من التكييف الثقافي والسياسي الذي يعمل على إعادة إنتاج شرعية جديدة للنخب والطبقات السياسية التقليدية والجديدة، عن طريق استثمار العملية السياسية والمجتمعية السائرة نحو إحداث بعض الإصلاحات السياسية على ضحالتها، وتحويلها إلى آلة لترسيخ شرعية تلك النخب التي من الطبيعي أن لا تمهد لمشاركة سياسية حقيقية وفاعلة، بل ترسيخ المزيد من ثقافة الطاعة والحمد والشكر. وقد عملت هذه التحولات من زاوية أخرى على تهشيم المفهوم التقليدي لفكرة الهوية، وحدث الأمر ذاته في تفكيك مبدأ المواطنة. لكن، للأسف، لم تتم إعادة بناء لا فكرة الهوية على أسس ثقافية جديدة، كما لم نؤطر الأساس القانوني والثقافي للمواطنة؛ ثمة هدم مستمر من دون بناء.
فكما أنه لا يمكن دراسة علم اجتماع التخلف بمعزل عن فهم اقتصاد المجتمعات المتخلفة، فإنه لا يمكن فهم إعاقة الديمقراطية من دون فهم علاقات الإنتاج الظاهرة والأخرى الكامنة التي تحدد مصائر الأفراد، وتوجه في نهاية الأمر سلوك الدولة حيال رعاياها في بيئتها الإقليمية والدولية. هذا الفهم يكمن في الأساس في فهم الثقافة التي تمنح الشرعية وتحجبها، والتي تبرر وتسوغ هنا، وترفض وتمنع هناك.
هذه الحالة الشائكة من الغموض، تضيف المزيد من الحيرة على فهم الفوضى السياسية والاجتماعية والثقافية الراهنة، وتجعل المهمة أشبه بالتنجيم. إذن، المدخل الموضوعي لتحليل مستقبل علاقات السلطة في العالم العربي بعد نهاية تحولات "الربيع العربي"، يبدأ من هنا؛ من حالة خداع بصري تتحول فيها عصا السلطة إلى عصا الساحر، من دون أن تفقد أدوارها التقليدية. والسؤال المحير الذي يعيد إنتاج تقاليد التسلط يكمن في العمق، بعيدا عن السياسة.