"الأساتذة" باعة الكُتب..!

بالغ الاحترام للإخوة أصحاب المكتَبات الذين نتسوّق لديهم المعرفة. لكنّني أقصد آخرين، مهنتهم الأصلية هي التدريس، لكنّهم يشتغلون بعمل إضافي غريب: يؤلفون كتباً ويفرضون على الطلبة شراءها وقراءتها فرْضاً. والمُعتاد في المؤلفين الكبار المعتدّين بأعمالهم أن لا يزكّوها باعتبار أنّها نهاية المعرفة، ناهيكَ عن إجبار أحد على قراءتها. بل إنّ الكُتّاب العاملين في التدريس منهم يترفّعون عن إحالة طلبتهم إلى كتبهم الخاصة لتكون المرجع الوحيد للمساقات التي يدرّسونها.اضافة اعلان
أتذكّر من أيام الدراسة الجامعية أستاذين في جامعة أردنية محترمة، أحدهما له ربّما خمسون كتاباً أو يزيد، كلُّ واحد منها يشرح نصاً أدبياً كلاسيكياً. وإذا صادف وأن تتلمذتَ عليه في أحد المساقات، فإنه يخصص أربعة أو خمسَة من كتبه لتكون منهاج المساق، ويتأكد من أنك اشتريتها وتجلبها معك إلى المُحاضرة كشرط أساسيّ للنجاح في المادة. وهُناك آخر يدرس في مادته كتابه الذي يقول فيه إنّ أفضل وقت للكتابة هو بعد  صلاة الفجر. وإذا أجبت في الامتحان بأنّ أفضل وقت للكتابة هو العصر مثلاً، فإنك تحصّل علامة منخفضة.
لا اعتراض من حيثُ المبدأ على تخصيص كُتب لتكون مراجع أساسيّة للمادة المعنيّة، لكنّ هناك شيئاً غير طبيعيّ وغير مريح في أنْ يُجبر الأستاذ طلبته على شراء كتابه هو بالذّات، وغالباً بسعر أعلى بكثير جدّاً مما تستحقّه "الجواهر" المكنونة فيه. وبطبيعة الحال، ممنوعٌ تصوير الكتاب "احتراماً لقوانين المُلكية الفكرية". وقبل أيام، أخبرني ابني الذي يدرس في جامعة أردنية بأنّه اشترى كتاب المساق الذي يدرسه بأحد عشر ديناراً، وعرض عليّ الكتاب العادي المطبوع بطريقة عادية، وقال لي إنّ أستاذ المادة هو صاحب الكتاب، ولذلك يجب أن يشتري الطلبة كتابه الأصلي ولا يصوّروه، وإلا لا تُحمد الُعقبى. ويمكن استنتاج أنّ الأستاذ المؤلف يقبض حُصّة كبيرة من أثمان كتبه بالاتفاق مع الناشر أو المكتبة المحظوظة ببيع إبداعه على باب الجامعة.
هذه الظاهرة موجودة أيضاً في المدارس، وإنّما بطريقة تتناسَب مع درجة الأستاذية. ففي المدارس يؤلف المدرسون "دوسيّات"، تكون عبارة عن تلخيص للمادة وتجميع لأسئلة مقترحة. ولا أدري إذا كانَ بعض أساتذة المدارس يفرضون شراء أعمالهم أيضاً على الطلبة، لكنّ الطبيعي هو أن يتوقع التلاميذ صعوبة اجتياز المادة إذا لم يطلعوا على توجهات المعلم ومواضع تركيزه من خلال شراء الدوسيّة. والسؤال هو: هل تكون المناهج المدرسية التي وضعتها وزارة التربية والتعليم قاصرة، غير واضحة، أو غير محيطة بما ينبغي من المعلومات؟ وإذا كان لدى المعلّم ما يضيفه ويعدّله على المناهج، أفلا يجب أن يهب معرفته لطلبته كجزء من واجبه الوظيفي؟
أفهم بطبيعة الحال أوضاع الإخوة الأساتذة في المدارس والجامعات، والتجائهم إلى هذه الطرق لتحسين مداخيلهم في الزّمن الصعب. وأؤكد أيضاً على حقّ الكُتّاب والمؤلفين في الحصول على رَيع جيّد مما يكتبون ويُنتجون. لكنّني أنظر أيضاً إلى أحوال أهالي الطلبة الذين يُجبرون على دفع كُلف إضافية غير أثمان الكتب المدرسية الغالية أصلاً. كما أنّ القراءة الإضافيّة ينبغي أن تكون فعلاً اختيارياً إذا كان لا بدّ منها. وقد يرى الأستاذُ فائدة لطلبته في قراءة كتبه وأبحاثه، فيحيلهم إليها على سبيل الإفادة اختيارياً من دون إجبار، وعلى نحو يحفظ له منزلته ولا يحوّله إلى تاجر جشع. وأذكر بالخير أستاذاً كانّ يصوّر لنا أبحاثه المنشورة في الدوريات المحكّمة من جيبه الخاصّ، ويوزعها علينا مجّاناً.
ثمّة في التّعليم ما هو أكثر من طرف يبثّ المعرفة وآخر يتلقاها. هناك الخيط الإنساني بالغ الأهميّة الممتد بين الأستاذ والطالب. وقد يتذكّر معظمنا أساتذة تركوا فيهم أثراً لا يُمحى. ولا أستغرب أن يكون أستاذ قد حدّد مسارات بعضنا ورؤاهم ووجهاتهم. هذا الجانب هو الذي يصنع الفارق بين قراءتك الكتاب وحدك، وبين تعرفك إليه وإلى العالَم على يد معلّم. وقاعدة هذه العلاقة المهمة في العملية التعليمية هي الاحترام، واعتقاد الطالب بجدارة أستاذه ونظافة فكره ويده. ولذلك، لا يَنبغي أن يتحوّل الأستاذ إلى بائع لكتبه الخاصّة، التي يسوّقها على طلبته قسراً، باستغلال سلطته.

[email protected]