الأسواق الحديثة تحتاج بنية أساسية

داني رودريك*
واشنطن- في الآونة الأخيرة كنت أقدم كتابي الجديد "مفارقة العولمة" لمجموعات مختلفة من الناس. والآن أصبحت معتاداً على تلقي كافة أشكال التعليقات من الجمهور. ولكن في مناسبة جرت مؤخراً لإطلاق كتاب جديد، فاجأني الخبير الاقتصادي الذي أخذ على عاتقه مناقشة الكتاب بانتقاد غير متوقع، حيث قال متبرما "إن رودريك يريد أن يجعل العالم مكاناً آمناً للساسة".اضافة اعلان
ويبدو أنه خشي أن يضيع المغزى من رسالته، فانبرى إلى شرح وجهة نظره بتذكير الحاضرين بوزير الزراعة الياباني السابق الذي زعم أن اليابان لا يمكنها استيراد لحوم البقر "لأن الأمعاء البشرية في اليابان أطول من غيرها في بلدان العالم الأخرى".
أثار التعليق بعض الضحكات الخافتة. فمن لا يستملح مزحة تُطلَق على أحد الساسة؟
ولكن التعليق كان يحمل في طياته غرضاً أكثر جدية وكان المقصود منه بوضوح الكشف عن خلل جوهري في حجتي. فقد اعتبر محاوري أنه من البديهي أن نرى في منح الساسة حيزاً أكبر للمناورة فكرة سخيفة ـ كما افترض أن الجمهور يتفق معه. وألمح المحاور ضمناً إلى أن إزالة القيود التي تحد من حرية تصرف الساسة من شأنها أن تسمح لهم بتدخلات سخيفة تخنق الأسواق وتعطل محرك النمو الاقتصادي.
بيد أن هذا الانتقاد يعكس سوء فهم خطير للكيفية التي تؤدي بها الأسواق وظيفتها حقا. والواقع أن خبراء الاقتصاد الذين تربوا على الكتب الدراسية التي تعمل على حجب وتشويش الدور الذي تلعبه المؤسسات، كثيراً ما يتصورون أن الأسواق تنشأ من تلقاء نفسها، ومن دون مساعدة من عمل جماعي هادف. ولعل آدم سميث كان محقاً عندما قال إن "الميل إلى المقايضة والمبادلة" غريزة فطرية في البشر، ولكن الأمر يتطلب مجموعة كاملة من المؤسسات غير السوقية لإشباع هذا الميل.
ولنتأمل هنا كل ما هو مطلوب. إن الأسواق الحديثة تحتاج إلى بنية أساسية للنقل والخدمات اللوجستية والاتصالات، والقسم الأعظم من كل هذا يحتاج إلى استثمارات عامة. وهي تحتاج إلى أنظمة لإنفاذ العقود وحماية حقوق الملكية. كما تحتاج إلى قواعد تنظيمية تضمن اتخاذ المستهلكين لقرارات مستنيرة مبنية على الاطلاع، وتحويل العوامل الخارجية إلى عوامل داخلية، كما تضمن عدم إساءة استخدام قوة السوق. وتحتاج أيضاً إلى بنوك مركزية ومؤسسات مالية تعمل على تفادي حالات الهلع المالي وتخفيف تأثيرات الدورة التجارية. كما تحتاج إلى توفير سبل الحماية الاجتماعية وشبكات الأمان من أجل إضفاء الشرعية على نتائج عملية التوزيع.
والواقع أن الأسواق الطيبة الأداء تحتوي دوماً على آليات واسعة النطاق للحوكمة الجمعية. ولهذا السبب، سنجد أن أكثر القوى الاقتصادية ثراءً هي تلك التي تتمتع بأكثر أنظمة السوق إنتاجية، والتي تتمتع أيضاً بقطاع عام ضخم.
وبمجرد أن ندرك أن الأسواق تحتاج إلى قواعد، فيتعين علينا أن نسأل أنفسنا من الذي ينبغي له أن يسن هذه القواعد. إن خبراء الاقتصاد الذين يستخفون بقيمة الديمقراطية يتحدثون أحياناً وكأن البديل للحكم الديمقراطي هو اتخاذ القرار من قِبَل ملوكٍ فلاسفة أفلاطونيين ـ أو بتعبير أكثر دقة خبراء الاقتصاد!
ولكن هذا السيناريو غير ذي صلة بقضيتنا، وهو فضلاً عن ذلك سيناريو غير مرغوب. فكلما تدنت درجة شفافية وتمثيل النظام السياسي وقدرة الناس على مساءلته، ارتفعت احتمالات اختطاف أصحاب المصالح الخاصة للقواعد. ولا شك أن الأنظمة الديمقراطية من الممكن أن تُختَطَف أيضا. ولكن الديمقراطية تظل تشكل الدرع الأفضل لاتقاء الحكم التعسفي.
فضلاً عن ذلك فإن وضع القواعد نادراً ما يعتمد على الكفاءة وحدها، بل إن الأمر قد يستلزم المفاضلة بين الأهداف الاجتماعية المتنافسة ـ الاستقرار في مقابل الإبداع على سبيل المثال ـ أو الاضطرار إلى اختيارات توزيعية. وهذه ليست بالمهام التي قد نرغب في ائتمان خبراء الاقتصاد على القيام بها، فهم ربما يعرفون ثمن العديد من الأشياء، ولكنهم لا يعلمون بالضرورة القيمة الحقيقية لهذه الأشياء.
صحيح أن جودة الحكم الديمقراطي من الممكن أن تتعزز في بعض الأحيان عن طريق الحد من السلطة التقديرية للمثلين المنتخبين. والأنظمة الديمقراطية العاملة بشكل جيد كثيراً ما تفوض سلطة وضع القواعد لهيئات شبه مستقلة عندما تكون القضايا المطروحة فنية ولا تثير مخاوف خاصة بالتوزيع؛ أو عندما يؤدي تبادل الخدمات خلافاً لذلك إلى نتائج دون المستوى الأمثل للجميع؛ أو عندما تخضع السياسات لقِصَر النظر، في ظل إهمال جسيم للتكاليف في المستقبل.
وتقدم لنا البنوك المركزية المستقلة مثالاً بالغ الأهمية في توضيح هذه الحقيقة. فقد يكون من صميم عمل الساسة المنتخبين تحديد هدف التضخم، ولكن السبل المستخدمة لتحقيق ذلك الهدف تُترَك للتكنوقراطيين في البنك المركزي. وحتى في هذه الحالة فإن البنوك المركزية تظل في الظروف المثالية مسؤولة أمام الساسة وملزمة بتقديم التفسير إذا عجزت عن تحقيق الأهداف.
وعلى نحو مماثل، قد نجد حالات مفيدة من التفويض الديمقراطي للمنظمات الدولية. والواقع أن الاتفاقيات العالمية لوضع سقف للرسوم الجمركية أو الحد من الانبعاثات السامة تشكل قيمة عظيمة. ولكن خبراء الاقتصاد يميلون إلى تقديس هذه القيود من دون تمحيص كاف للسياسات التي تنتجها.
فقد نؤيد القيود الخارجية التي تعمل على تعزيز جودة التداول الديمقراطي ـ من خلال منع التركيز على الربح السريع أو المطالبة بالشفافية على سبيل المثال. ولكن الأمر يختلف تمام الاختلاف عندما نخرب الديمقراطية من خلال تفضيل مصالح بعينها على حساب مصالح أخرى.
فنحن نعلم على سبيل المثال أن متطلبات كفاية رأس المال العالمية التي أقرتها لجنة بازل تعكس بشكل بالغ الوضوح نفوذ البنوك الكبرى. وإذا تولى خبراء الاقتصاد والتمويل وضع القواعد التنظيمية فمن المؤكد أنها سوف تكون أكثر صرامة. وفي المقابل، إذا تُرِكَت مسألة وضع القواعد لعملية سياسية محلية، فقد ينشأ المزيد من الضغوط التعويضية من جانب أصحاب المصالح المتعارضة (على الرغم من قوة المصالح المالية في الداخل أيضا).
بالمثل، وعلى الرغم من الخطب الرنانة، فإن العديد من اتفاقيات منظمة التجارة العالمية لا تُبرَم كنتيجة لمساع رامية إلى تحقيق الرفاهية الاقتصادية العالمية، بل كنتيجة للضغوط التي تفرضها الجهات المتعددة الجنسيات الساعية إلى انتهاز فرص تحقيق الربح.
وتعكس القواعد الدولية التي تحكم براءات الاختراع وحقوق الطبع والتأليف والنشر قدرة شركات الأدوية وهوليود ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ على تحقيق مآربها. والواقع أن العديد من خبراء الاقتصاد يسخرون من هذه القواعد لأنها تفرض قيوداً غير مناسبة على قدرة البلدان ذات الاقتصاد النامي على الحصول على الأدوية الرخيصة أو الفرص التكنولوجية.
لذا فإن الاختيار بين التعقل الديمقراطي في الداخل وبين القيود الخارجية لا يشكل دوماً اختياراً بين سياسات جيدة وأخرى رديئة. وحتى عندما تكون العملية السياسية الداخلية رديئة، فليس هناك ما يضمن قيام المؤسسات العالمية بعملها على نحو أفضل. وكثيراً ما يكون الاختيار بين الرضوخ إما للساعين إلى الربح السريع في الداخل أو أمثالهم في الخارج. ولكن في الحالة الأولى تظل الأرباح في الداخل على الأقل!
في نهاية المطاف، يتعلق السؤال بمن ينبغي لنا تمكينه من وضع القواعد التي تحتاج إليها الأسواق. والحقيقة التي لا فرار منها في التعامل مع اقتصادنا العالمي هي أن المستقر الرئيسي للمساءلة الديمقراطية المشروعة ما يزال موجوداً داخل الدولة الأمة. لذا فإنني أقر بذنبي فيما يتصل بالتهمة التي وجهها إليّ محاوري الاقتصادي المنتقد. فأنا حقاً أريد أن أجعل العالم مكاناً آمناً للساسة الديمقراطيين. وبصراحة، لا أظن أن أحداً قد لا يرغب في ذلك.

*أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بجامعة هارفارد.
خاص بـ"الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت 2011.