الأسواق الناشئة تتجاوز الهدف

مايكل سبنس*

ميلانو ـ حتى وقت قريب نسبياً كان ما يسمى بتحولات الدخول المتوسطة في بلدان العالم موضع تجاهل إلى حد كبير ـ ويرجع هذا جزئياً إلى أن التحول المفترض تبين أنه فخ. فقد نجحت قِلة من الاقتصادات في آسيا ـ وبخاصة اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ـ في الارتفاع إلى مكانة البلدان ذات الدخل المرتفع وبمعدلات نمو مرتفعة نسبيا. ولكن الغالبية العظمى من الاقتصادات تباطأت أو توقفت عن النمو تماماً من حيث نصيب الفرد بعد دخول مجال الدخل المتوسط.اضافة اعلان
واليوم أصبح لدى المستثمرين وصناع السياسات والشركات العديد من الأسباب لتكريس قدر أعظم كثيراً من الاهتمام لهذه التحولات. فبادئ ذي بدء، رفعت الصين الرهان إلى حد كبير، حيث يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي مجموع نواتج بلدان مجموعة البريكس الأخرى (البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا) بالإضافة إلى إندونيسيا والمكسيك. وسوف يخلف النمو الصيني المتواصل، أو غيابه، تأثيراً كبيراً على كل البلدان النامية الأخرى ــ وعلى الاقتصادات المتقدمة أيضا.
وثانيا، فقدت الاقتصادات المتقدمة توازنها وأصبح نموها أقل كثيراً من إمكاناتها الحقيقية، مع توقعات متفاوتة ولكن محدودة بنمو أسرع خلال أفق زمني يمتد خمس سنوات. وعلى النقيض من هذا تمثل الاقتصادات الناشئة التي تتسم بإمكانات نمو أعلى أسواقاً محتملة ضخمة يمكن استغلالها.
وثالثا، اعتمدت غالبية الاقتصادات الناشئة الكبرى (إندونيسيا والبرازيل وروسيا وتركيا والأرجنتين، ولكن ليس الصين) بلا حكمة على تدفقات ضخمة من رؤوس الأموال الأجنبية الرخيصة إلى حد غير طبيعي، بدلاً من المدخرات المحلية، لتمويل الاستثمارات الداعمة للنمو. ونتيجة لهذا فقد تدهورت أرصدة حساباتها الجارية في فترة ما بعد الأزمة.
والآن، ومع بداية تشديد السياسة النقدية في البلدان المتقدمة، بدأ رأس المال المستورد يغادر، في حالة من الذعر الطفيف، الأمر الذي فرض ضغوطاً نزولية على أسعار الصرف وضغوطاً صعودية على الأسعار المحلية. ويتطلب التصحيح الجاري الآن إطلاق إصلاحات حقيقية والاستعاضة عن رأس المال الخارجي المنخفض التكلفة بالاستثمار الممول محليا.
ويعكس عدم الارتياح في الأسواق الشكوك بشأن مدة تباطؤ النمو الذي من المرجح أن ينشأ نتيجة لذلك، والعواقب بالنسبة لجودة الائتمان وتقييماته، وتأثيرات القطيع، والعوائد السلبية الناجمة عن تحويل الاتجاه بشكل مفاجئ. وهناك فضلاً عن ذلك تخوف من أن يؤدي تجاوز هدف تدفقات رأس المال إلى الخارج إلى إلحاق ذلك النوع من الإضرار بالاستقرار والنمو والذي يصبح التعافي منه أكثر صعوبة. لقد تلقت هذه الاقتصادات الناشئة الكبيرة تصريح مرور مجانياً إلى النمو: اقدرة على الاستثمار من دون الحاجة إلى تنفيذ إصلاحات شاقة أو التضحية بالاستهلاك الحالي. ولكن سلوك المنعطف أسهل من العودة إلى الطريق الرئيسي.
ولكن هذا السرد لا يمت بصلة كبيرة إلى الصين، حيث المدخرات الفائضة وضوابط رأس المال لا تزال تحد من التعرض المباشر لامتداد عوامل السياسة النقدية الخارجية من البلدان المتقدمة. والصين ليست خالية من المخاطر؛ كل ما في الأمر أن المخاطر التي تواجهها مختلفة.
ولكن حتى برغم ذلك، وفي وسط المخاوف المتزايدة بشأن آفاق الاقتصادات الناشئة، تجتذب الصين الانتباه بسبب حجمها وموقعها المركزي في بنية التجارة العالمية (وعلى نحو متزايد، التمويل العالمي). ونتيجة لهذا فإن تقييم المخاطر في الصين يركز على حجم التحول البنيوي، والمقاومة من قِبَل المصالح المحلية القوية، والتشوهات المالية المحلية.
وبشكل خاص، هناك شكوك كبيرة تحيط بالنسخة الصينية من الظل المصرفي، الذي نشأ إلى حد كبير بهدف التحايل على القيود الراسخة في النظام الرسمي الذي تهيمن عليه الدولة. وقد أعطى الظل المصرفي المدخرين/ المستثمرين القدرة على الوصول إلى قائمة أطول من الخيارات المالية، في حين اكتسبت الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم ــ التي تلعب دوراً متزايد الأهمية في توليد النمو وفرص العمل ــ قدرة أوسع على الوصول إلى رأس المال.
ويتعين على السلطات الصينية أن تعالج قضيتين. وسوف يكون حل الأولى التي تتمثل في إنشاء هيئة إشرافية تنظيمية أسهل من الثانية: إمكانية الإفراط في خوض المجازفة نتيجة للضمانات الحكومية الضمنية التي تدعم الميزانيات العمومية للبنوك المملوكة للدولة. وتحتاج السلطات إلى إزالة الضمانة المدركة من دون إشعال فتيل أزمة سيولة في حال سماحها لأحد البنوك أو صناديق الائتمان خارج الميزانية العمومية بالإفلاس.
وتطول قائمة التحديات الأخرى التي تواجه الصين. فالصين تحتاج إلى كبح جماح الاستثمار المنخفض العائد؛ وتعزيز سياسة المنافسة؛ وتصحيح البنية المالية المنحرفة؛ ورصد توزيع الدخل بين الأسر والشركات ومالكي الأصول والدولة؛ وتحسين إدارة الأصول العامة؛ وتغيير حوافز المسؤولين الإقليميين والمحليين؛ وإصلاح عمليات تخطيط وتمويل النمو الحضري. ويخشى المحللون المخضرمون مثل يو يونج دينج أن تؤدي الصعوبات التي تواجه صناع السياسات في إدارة اختلالات التوازن والروافع المالية وما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ــ أو ما هو أسوأ من ذلك، الأخطاء السياسية ــ إلى إلهائهم عن هذه الإصلاحات الأساسية اللازمة للتحول إلى نمط نمو جديد ومستدام.
ولا عجب أن الأسواق المالية تشعر ببعض الارتباك. ولكن التأرجح مفرط. وليس كل مستثمري الاقتصادات المتقدمة الذين كانوا يلاحقون العائد لديهم معرفة عميقة بديناميكيات النمو في البلدان النامية. ونتيجة لهذا فإن عكس الاتجاه سوف يتجاوز هدفه على نحو شبه مؤكد، وهو ما من شأنه أن يخلق فرص استثمارية كانت مفتقدة في البيئة السابقة، حيث كانت أسعار الأصول والصرف تتأثر بقوة بالظروف الخارجية، وليس العوامل الأساسية المحلية.
وتعمل الاقتصادات الناشئة الكبرى الآن على التكيف بنيوياً مع هذه البيئة الجديدة. وهي لا تحتاج إلى تمويل خارجي لكي تحقق النمو. والواقع أنه منذ الحرب العالمية الثانية لم يشهد أي من الاقتصادات النامية فترة من النمو السريع المستدام في ظل عجز ثابت في الحساب الجاري. وكانت المستويات العالية من الاستثمارات المطلوبة لدعم النمو السريع ممولة محلياً إلى حد كبير.
إن التحديات التي تواجه الصين ذات طابع خاص وتختلف عن تلك التي تواجه الاقتصادات الناشئة الأخرى. فالتحولات البنيوية المطلوبة ضخمة، واختلالات التوازن حقيقية. ولكن الصين تتمتع بسجل أداء مثير للإعجاب، فضلاً عن مواردها وخبراتها الكبيرة والزعامة القوية وبرنامج الإصلاح الطموح الشامل والمستهدف على النحو السليم.
والسيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن أغلب الأسواق الناشئة الكبرى، بما في ذلك الصين، سوف تعاني من تباطؤ انتقالي للنمو ولكنها لن تخرج عن مسارها بسبب تحولات السياسة النقدية في الغرب، وسوف تعود معدلات النمو المرتفعة في غضون العام المقبل. وهناك مخاطر الجانب السلبي الداخلية والخارجية في كل دولة، والتي لا يجوز استبعادها، هذا فضلاً عن التقلبات في تدفقات رأس المال الدولية والتي تعمل على تعقيد الأمور.
والمشكلة اليوم هي أن مخاطر الجانب السلبي أصبحت بمثابة التوقع المجمع عليه. وفي اعتقادي أن هذا مضلل ــ وأساس رديء للاستثمار والقرارات السياسية.

*حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد.
خاص بـ"الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.