الأصنام تتهاوى

.. وثالثهم معمر القذافي. البغيض، الذي كان كثير من زعماء العالم إذا ما التقوه، فمضطرين وبحكم البروتوكول، لم يعد محتملا بقاؤه إلا سجينا أو طريدا، هاربا من قدره الذي يترقبه في شوارع مدينة ليبية أو تحت ظل مشنقة ربما. اضافة اعلان
عكست تصرفاته غريبة الأطوار صورة فجة عن الليبيين، فالشعب على هيأة حاكمه كما تدعي أدبيات الحكم العربي. لكن هذا البغيض الذي احتمى بأكذوبة الحاكم الشعبي، وتصنم فيها، فر من آخر معاقله الحصينة، والمسيجة بكتائب سلحها طيلة 42 عاما لتحميه وعائلته والمنتفعين منه.
لم تشفع له ثلاثة خطوط ألغام حول طرابلس المدينة التي حولها إلى قلعة، في أن يصمد عدة ساعات. سقطت خلال برهة، لم يتوقعها حتى أكثر المحللين الاستراتيجيين حنكة ودراية في حرب المدن.  ولم تمكنه عقود "التبيهم" من تحويل شعبه إلى قطيع يثغو خلف مبوِّقين باسمه، ومن اجتراح معجزة مجابهة رافضي استبداده، والظهور كزعيم ولو لمرة أخيرة، وهو يخطب خلف سور يطل على جماهير تؤيده في الساحة الخضراء.
سقط الصنم.. سقطت هيبته، حتى لو ظل يطلق الرصاص بما بقي معه من حمقى في الأيام المقبلة. انتهى، ولم يعد بمكنته أن يكون زعيما كسابق عهده، ولن تكون الأيام بعيدة عن رؤيتنا له مسحولا أو مقادا إلى محكمة.
وحتى لو لم يحدث هذا، فقد انهدم المعنى الذي أحاط به؛ معنى الصنم، وتوقفت عقارب الساعة القذافية عن الحركة. فليبيا اليوم هي غير ليبيا أمس. ربما تحدث بعض الملابسات في إيقاع عودتها إلى عقلها، لكن ذلك لن يقودها إلى الثغاء ثانية، ولن تتدحرج إلى هاوية قذافية، مهما حدث.
وليبيا اليوم، أفضل مما كانت عليه قبل 17 شباط (فبراير)، وأكثر استجابة للحياة، وفهما لمقتضيات العصر، وإدراكا للتوجه نحو الأمل.  حين تهدمت أصنام مكة يوم الفتح، والذي شاء ثوار ليبيا التماثل معه في تاريخ إعادة طرابلس إلى أمها وانتزاعها من الصنم، شكل المسلمون معجزة في استعادة روح الإنسان. انتقلوا بوعيهم إلى ما هو أبعد من الدوران حول مجموعة أصنام، بعضها كانوا يلتهمونه حين يجوعون.
بدؤوا عهدا جديدا. والليبيون كذلك. لا أحد كان يريد القذافي، وبعضهم كان يتمنى في قرارته ذهابه إلى جهنم، قبل تقدم "الناتو" للاسترزاق من وراء تهديم الليبيبن لصنمهم.
ما حدث في ليبيا لم يحدث في تونس ومصر، حين هدم شعباهما بن علي ومبارك، لكن الليبيين الذين ووجهت ثورتهم السلمية منذ لحظة انطلاقها بطلقات مدافع مضادة للطائرات، لم يجدوا بُدا من التحول إلى ثورة مسلحة، تتحرك في اتجاه واحد: الخلاص من الصنم.  صنمان سبقا القذافي بالتهاوي. كان مجرد التفكير بأنهما قد يغادران الحكم مستحيلا، لكنهما غادراه، أحدهما يلبد كجرذ، خائفا مما قد يؤول إليه مصيره، والثاني مهدوم في سجنه، يحتمي بتغطية ولديه خلف القضبان كي لا تظهر مهانته للعالم.  رغم أن الصنمين بقيا طيلة ثورة شعبيهما غير مصدقين بأن "القطعان!" أصبحت تصرخ "الشعب يريد إسقاط النظام"، فإن ثمة علي عبدالله صالح وبشار الأسد مثلا، لم يتعلما بعد أن الشعوب لم تعد قادرة على حشوة المعدة بالبرسيم الاستبدادي.
لن يتعظا، ويبدو أن صنمية عقل الحاكم العربي الصماء، تقوده إلى مصائر لا تقل في إهانتها عن مصير مبارك وبن علي. إنهما أمثولة لوضاعة المستبد عبر التاريخ.