الأطفال المتسربون: رهن لطف القدر

من المبهج حقاً أن مبادرات تمكنت من إحداث تغيير نوعي في حياة إنسان، والانتقال به من شخص تائه، سلبي، وربما مخرب، إلى شخص منتج، متعاون، ويمتلك هدفا.اضافة اعلان
لكن سنمتلئ بالغضب حين نعرف أن توهان هذا الشخص ناجم عن تقصير فادح من قبل المؤسسة الرسمية، وأن ضياعه يمكن أن يتسبب في ضياع آلاف الأشخاص مثله، قبل أن تصلهم يد العون من مبادرة هنا أو هناك.
أمس، قرأت منشورا على فيسبوك للرئيسة التنفيذية لمؤسسة عبد الحميد شومان فالنتينا قسيسية، تحدثت فيه عن مجموعة من الفتية أعمارهم بين 14 و15 سنة، كانوا قبل فترة، يتجمعون حول بوابة مكتبة درب المعرفة المخصصة للأطفال، ويتسببون بأذى لروادها بالإساءة لهم أو بإحداث شغب في المكان، ولم يتمكن أمن المكتبة من السيطرة عليهم، ما أدى إلى ورود عدة شكاوى للإدارة.
قسيسية، أرادت أن تعرف لماذا يتصرف هؤلاء الأطفال بطريقة عدوانية، فعمدت إلى الذهاب إلى مكان تجمعهم، والتقت بهم، وجلست معهم جلسة "صراحة" كما تقول، لتكتشف أن في داخلهم أرواحا رائعة، وأن لديهم طموحات عالية، فمنهم من يتمنى أن يصبح طيارا أو جراحا وآخر يريد أن يكون رجل أعمال وغيره يحلم بأن يصبح "موديل"، لكن للأسف تبين بأن بعضهم "مطرود" من المدرسة، على حد قولها، والبعض الآخر يهرب منها لسوء معاملة المعلمين له، والأسوأ من ذلك أن بعضهم أميون لا يقرؤون ولا يكتبون.
"درب المعرفة" قررت عقد دروس محو أمية وحصص تقوية في المواد الدراسية لهؤلاء الأطفال، لتفاجأ في اليوم التالي بطوابير من الأطفال الذين يطلبون المساعدة وحضور هذه الحصص. وبالفعل، استقبلتهم المكتبة وألحقتهم في دروس محو الأمية والتقوية في الرياضيات والعربي والإنجليزي.
اليوم، صار هؤلاء الأطفال فريقا متطوعا يساعد طاقم المكتبة في خدمة زوارها وفي ترتيب الكتب وفي تدريس غيرهم، وتحولوا إلى معين للمكتبة وروادها بعد أن كانوا يحاولون إعاقة وصول الآخرين إليها نتيجة شعورهم بالحرمان من أمور كثيرة يحصل عليها الآخرون.
ما قامت به مؤسسة عبد الحميد شومان عمل عظيم يقدر لها ويضاف إلى رصيدها في خدمة المجتمع وتنميته، وما حققته مع هؤلاء الأطفال يثلج الصدر ويحيي في القلوب أملا بإمكانية تحقيق التغيير الإيجابي إذا وُجدت العزيمة وتوفر الإخلاص في العمل.
لكن غصة في القلب لا تنفك تطغى على هذا الشعور المبهج حين يذكر المرء بأن هؤلاء الأطفال الذين تم إنقاذهم، كان من الممكن أن يستمروا في ضياعهم، وأن يتحولوا إلى مخربين ومنحرفين على مستويات أكثر تعقيدا، لو لم يحالفهم الحظ بوجود جهة تحتويهم وتقوّم حالتهم. والأشد غصة من ذلك، هو وجود آلاف الأطفال أمثالهم في أماكن أخرى عديدة من هذا الوطن، يتوجهون يومياً نحو الشارع متسربين من مدارسهم، لأسباب عديدة منها سوء معاملة مدرسيهم، ومنها أيضاً أسباب يتحمل مسؤوليتها أولياء أمورهم، وسط تراخ كبير في تطبيق القوانين التي تحمي هؤلاء من التشرد وعلى رأسها قانون إلزامية التعليم، إضافة لغياب معالجة شاملة وجادة لمشكلة العنف المدرسي، ناهيك عن تردي المباني والمرافق في معظم المدارس الحكومية.
لقد حول هذا الواقع السيئ مدارسنا إلى بيئات طاردة ومنفرة للطلبة، بينما تقف المؤسسات الرسمية متفرجة إزاء ذلك، أما الطلبة الهائمون في الطرقات والأزقة، فأمرهم رهن حظهم؛ إما أن تتلقفهم أيادٍ بيضاء، كما فعلت مؤسسة شومان، ترمم بعضا من الدمار الذي لحق بهم، أو أن يستمر ضياعهم، وربما يوقعهم الحظ العاثر في طريق من يستغلهم في سبل غير مشروعة ويلقي بهم إلى الهاوية.