الأقليات الصارخة

لا نقصد بهذا العنوان الأقليات بمفهومها الإثني أو الثقافي أو الديني، بل الأقليات الإلكترونية؛ أي المجموعة الصغيرة التي تستطيع استخدام وسائل الإعلام الرقمي وتطبيقات الإعلام الاجتماعي على شبكة الإنترنت بمهارة وسرعة، وتملك في الوقت نفسه أجندة سياسية واجتماعية، بما يمكنها من خلق صورة ذهنية وكأنها تعكس الرأي العام.اضافة اعلان
ظاهرة "الصراخ الإلكتروني" ليست ظاهرة أردنية أو عربية، بل ظاهرة عالمية، لكنها تجد بيئة خصبة في بعض المجتمعات المتحولة أو التي تشهد أزمات سياسية وثقافية. وهي ظاهرة مرتبطة بالوسائط الإعلامية الجديدة، وبالتحديد شبكات الإعلام الاجتماعي، وبعض المنصات الإعلامية الرقمية التي يديرها هواة أو أشباه محترفين. وقد أطلقت الدراسات المبكرة على هذه الظاهرة اسم "قوة الأقليات الصارخة"، وهنا نقصد المجموعات الاجتماعية أو العمرية أو الفئوية التي تملك القدرة والوقت للوصول إلى هذه الوسائل وإغراقها بالمعلومات والمواقف والتحليلات للأحداث، ولتبدو وكأنها تعكس الرأي العام العريض في الشارع.
وفرت الوسائط الاجتماعية بيئة ملائمة لازدهار هذا النوع من الخطاب الإلكتروني، ولاسيما بفعل القدرة على إخفاء الهوية، ما يتيح المجال لرفع الصوت عاليا بمضمون غير مألوف، يتم التطبيع معه بسرعة هائلة؛ أو إصدار الأحكام أو نشر خطاب الكراهية للآخرين، أو تصنيف البشر وإعادة  التصنيف وتضخيم الذات، بشكل يجعل القارئ يتخيل زوال الآخرين في لحظة ما؛ أو بناء أجندة قد تكون مختلفة تماما عن الواقع. وطبعا، معظم موجات الصراخ الإلكتروني غاضبة، ومملوءة بشحنة عالية من العاطفة والمشاعر الملتبسة التي ترفض مبدأ النقاش والتبادل الحقيقي للآراء. وتبرز أحيانا موجات أكثر ذكاء.
والحقيقة الصادمة هي أن هذه الحالة تعطي، في الأغلب، صورة كاذبة ووهمية، لا تعكس الواقع، بل تبني واقعا افتراضيا لا وجود له على الأرض، أو تضخم الذرات لتُرى كائنات تمشي على الأرض.
الحقيقة الصادمة الثانية، هي أن ظاهرة الأقليات الصارخة تبدو في المجتمعات المتحولة اجتماعيا وسياسيا، والتي تتمتع بنسب تعليم عالية، وتعاني من أزمة ثقافية في حسم خياراتها وقيمها الكبرى حول الهوية ودور الدين والموقف من القانون وغيرها.
ثمة تيار إحيائي للهويات المحلية الفرعية، يجتاح جهات متعددة من العالم؛ ليس في دول أوروبا الشرقية الجديدة فقط، بل في جهات متعددة، وفي مجتمعات تخرج من فوضى الحروب الأخيرة. ولعل مشهد إحياء الهويات المحلية في العراق بعد حرب العام 2003، وارتفاع أصوات الأقليات الثقافية والدينية بعد الثورات العربية، هما مثالان واضحان على ما منحه الإعلام الجديد والبث التلفزيوني المباشر من إمكانات للجماعات الثقافية المحلية، بغض النظر عن حجمها وتمثيلها الفعلي؛ ما يوفر اليوم بيئة أكثر خصوبة لازدهار "الأقليات الصارخة". لكن الأعقد والمؤلم فيما توفره بيئة الصراخ الإلكتروني من فرص للهويات المتخيلة أو الافتراضية، أنها تضيق من فرص بناء تعددية سياسية وثقافية على أسس ديمقراطية، كما أنها تحرك الراكد الاجتماعي وتعيد صراعات قديمة وتنتج صراعات جديدة، وتصب المزيد من الزيت على النيران المشتعلة.