الأكاديمية الفرنسية وعقل الدولة

رأى ماكس فيبر في النموذج النابليوني الفرنسي خلاصا نهائيا لحال التعليم المرتهن لسلطة الكنيسة في أوروبا العصور الحديثة. فنابليون بونابرت وضع حداً لتبعية التعليم للكنيسة، إذ وحد لغة التلقين، كما اتجه إلى التكوين العلمي والتقني، وطبق برنامج الموسوعيين في مجال التعليم. ومنذ ذاك الزمن تعمق العقل في التعليم، وأعيد الاعتبار للأكاديمية الفرنسية التي أسسها الكاردينال ريشيليو، وهو رجل دولة فرنسي، العام 1635 في عهد لويس الثالث عشر، ولكنها أُغلقت العام 1793 خلال الثورة الفرنسية. ولما جاء نابليون اعترف بها العام 1803، فأصبحت جزءاً من معهد فرنسا، وهو مجموعة من الجمعيات العلمية التي تساندها الحكومة.اضافة اعلان
الأكاديمية الفرنسية مكونة من 40 عضواً يُعرفون بالأربعين الخالدين. وبمجرد انتخابهم يصبحون أعضاء مدى الحياة. وبصفة عامة، يُصبح أي كرسي في الأكاديمية شاغراً فقط عندما يُتوفى العضو. والأفراد الذين يرغبون في التقدم للحصول على العضوية يتصلون بأعضاء الأكاديمية لإعلان ترشيحهم. ويُصوِّت الأعضاء على من يقبلونه عضواً. وكان جميع أعضاء الأكاديمية من مواليد فرنسا من المواطنين الذكور حتى العام 1894، ومنذ ذلك الوقت ضمت الأكاديمية رجالاً ونساء من قوميات أخرى من الذين يكتبون بالفرنسية.
منذ تأسيسها، فاق عدد الأشخاص الذين حازوا عضوية الأكاديمية السبعمائة، وهم من جميع المهن. فمنهم الكاتب والشاعر والطبيب والعالم، كما توجد شخصيات عسكرية وفلسفية وغيرها. وقد حدثت حالات طرد قليلة، إذ طرد عدد من الأعضاء بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن اتهموا بالعمالة للعدو الألماني. ولا يحق لأعضاء الأكاديمية الاستقالة من منصبهم.
لم يحالف أي عربي في القرن العشرين خيار الانتساب للأكاديمية، لكن تعيين الكاتبة المعروفة مرجريت يورسنار العام 1981 كأول امرأة عضو تنضم إلى الأكاديمية، فتح الطريق للعرب ليمثلوا بالأكاديمية من خلال المرأة. ففي العام 2005 عينت الكاتبة الجزائرية آسيا جبار، كثاني امرأة تنضم للأكاديمية، وجاءت أهمية هذا الحدث في كونه عمل على تزاوج الثقافتين العربية والفرنسية بهذا الشكل لأول مرة في التاريخ، فلم يحدث لكتاب أجانب أن نالوا عضوية الأكاديمية رغم طيلة إقامتهم في فرنسا، ومنهم على سبيل المثل: يوجين أونسكو وأندريه شديد، وغيرهما.
في كل عام يستقبل الرئيس الفرنسي أعضاء الأكاديمية التي تتولى مهام عدة، وتمنح جوائز للتميز العلمي، وتدير الكثير من النقاش العلمي المحترم في مختلف القضايا السياسية والفكرية وفي الثقافة الفرانكفونية، ولعل أهميتها ليست في سيرة أعضائها بل في كونها حافظت على موقعيتها في العقل الثقافي والسياسي الفرنسي، وفي رزانة أعضائها، والمهم في أمر الأكاديمية الفرنسية أنها تثبت بأن الدول والأمم الحية لا تتقدم إلا بضمان العلم والثقافة والحفاظ عليهما من الإقصاء بعيدا عن عقل الدولة، كما أن الثقافة والتعليم ليستا شأنا صرفا لوزراء الثقافة والتعليم العالي أو التربية، فهؤلاء ينفذون السياسات والاستراتيجيات التي تحتاج لعقول تضع رؤاها العامة، ولا يمكن بناء الرؤية الفكرية والثقافية للدولة من طرف مجموعة تكنوقراط أو خبير بعينه.

[email protected]