الأمراض النفسية للطبقة الوسطى

ارتفاع نسبة القلق بين الأردنيين والحيرة والتساؤل حيال المستقبل وغموضه، مرتبطة جميعها بالتحولات التي أصابت المجتمع الأردني خلال العقدين الماضيين، وليس فقط بالظروف السياسية والإقليمية. وهذه التحولات مرتبطة بقطاعات التعليم والصحة والترفيه والمشاركة في الشأن العام، وتأسيس ومتابعة الصحف، والاهتمام بالفنون والآداب والرياضة وسوى ذلك. ولنعترف بأن فقدان الثقة والخوف على الوجود، والقلق من المستقبل وارتباك الطمأنينة، أضحت أمراضاً نفسية تعانيها الطبقة الوسطى في غالبية البلدان العربية، ومنها الأردن.اضافة اعلان
ومن الصعب الحديث عن تراجع مستوى التعليم الحكومي العام من دون ربط ذلك بما يخلّفه من أعباء اقتصادية واجتماعية ونفسية على المواطن الأردني من جهة، وبما يكرّسه من قلق وارتباك ناجمين عن تراجع هدف تكوين هوية وطنية مشتركة كان يتيحها التعليم العام الحكومي، وقت أن كان ينضوي تحته العدد الأكبر من طلبة الأردن.
لقد تم تحويل أهداف الطبقة الوسطى الأردنية، بفعل العديد من العوامل، من المشاركة في الشأن العام إلى التمحور حول الأهداف الشخصية الصغرى (تربية الأولاد، تعليم الأولاد، تأمين تكاليف المعيشة...)، مع أنّ هذه الأخيرة تعدّ "تحصيل حاصل" للمتعلمين والمثقفين في أي مجتمع، وليست، في الأحوال الطبيعية، هي مدار طموحاتهم وغاياتهم ومسؤولياتهم وتطلعاتهم التي تتمثل في الحقيقة في المشاركة في تطوير قيم المجتمع، وإنشاء التضامن والتجانس بين مكوناته وأفراده ورفع مستوى انفتاحه وتمدنه. هذا الوضع جعل النخب في المجتمع الأردني تدور حول نفسها، وتفتقد إلى التراكم في الفعل والإنجازات في مواجهة الظروف الاقتصادية والسياسية. وهو ما نشأ عنه في المحصلة عزوف للشريحة الأوسع للطبقة الوسطى الأردنية عن الشأن العام والمشاركة الفاعلة في صنع المستقبل والحياة.
وإذا كان بعض المتفائلين يجادلون في مسألة تآكل الطبقة الوسطى وانكماشها في المجتمعات العربية عموماً قائلين إنها موجودة ومستقرة ولم تتآكل، وإنما تغيرت منهجية احتساب خط الفقر، كما صرّح قبل أيام مدير مديرية السياسات والاستراتيجيات في وزارة التخطيط والتعاون الدولي الدكتور مخلد العمري، فإنّ هذا لا ينفي أنّ ثمة انحداراً  في قيمة رأس المال الاجتماعي، وتراجعاً وانقساماً في دور النخب في رسم الاستراتيجيات وتنظيم التحولات وقيادة الطبقة الوسطى، بمستوياتها كافة. وهما عاملان يؤشران إلى تفكك الطبقة الوسطى من الداخل وتضعضعها.
حين تمرض الطبقة الوسطى في أي مجتمع، ينتشر بين المتعلمين والأهالي المثقفين الخوف من الحسد والغيرة والزبونية والأنانية وتراجع الضوابط الأخلاقية التي تحكم كيفية تحصيل المال وتأمين مستقبل الأسرة وتوفير العيش الكريم لأفرادها، حيث يغدو "الفساد شطارة". وينتج عن هذا، في المحصلة، تراجع في الكفاءة المهنية لدى الطبقة الوسطى، التي هي أساساً منجم الكفاءات ومصدرها، ما يقود بالتالي، مع مرور السنوات، إلى الانحدار المهني وانحدار التنافسية، وهما مقتلان للطبقة الوسطى، لاسيما في مجتمع مثل المجتمع الأردني، ثروته في موارده البشرية. إذْ بعد أن كانت جامعاتنا تنتج مثقفين وكتّاباً ومتنورين ونقّاداً وسياسيين، نرى أنها اليوم تكتفي بتخريج متعلمين، وثمة شكوك كبيرة في أن يكونوا مثقفين متنورين ومتأهبين للمشاركة في الشأن العام وجهود الإصلاح الديني والنهوض الفكري والعلمي وتطوير قيم التحضّر والتمدن والتحديث، والسهر على أهم وظائفهم المتمثلة في كونهم "باروميتر" الضمير والوازع الأخلاقي الحيّ.