الأمن المائي في العالم العربي

Untitled-1
Untitled-1

المهندس جريس دبابنة *

تعتبر المياه السلعة الأكثر استراتيجية في العالم وهذا التصنيف يدخل في الاعتبارات العالمية للتنمية والتقدم كافة وفي الاعتبارات الاقتصادية العالمية كافة وخاصة اذا كانت تعاني من القلة لن نجد على الأرض مكاناً يعاني من ندرة المياه العذبة أكثر من العالم العربي، فالمنطقة موطن لأغلب دول العالم الأكثر فقراً من حيث الموارد المائية، بحث يشمل ذلك البحرين وجيبوتي، قطاع غزه، الأردن، الكويت، ليبيا ، قطر، المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة ، ويلقي هذا النقص- المتفاقم بفعل الانفجار السكاني ونضوب وتدهور النظم البيئية الطبيعية- بظلاله القاتمة على مستقبل هذه البلدان متوازيا مع ارتفاع أسعار الطاقة والأسعار بشكل عام والتي تؤثر بشكل مباشر على الأمن المائي العربي.اضافة اعلان
التحديات التي تواجه العالم العربي كثيرة ، وعندما نضيف إلى هذه التحديات، الضغوط الخارجية والداخلية بما في ذلك الحروب الأهلية والهجرة الجماعية من مناطق النزاع يبدو المستقبل المائي للعديد من الدول العربية محاطاً بالشكوك وعدم اليقين.
ويبدو ان قلة من المراقبين يدركون كيف تساهم ندرة المياه في إدامة حلقة العنف، فقد كان أحد المحركات الرئيسية لثورات الربيع العربي وهو ارتفاع أسعار الغذاء ، مرتبطا بشكل مباشر بأزمة المياه المتفاقمة في المنطقة ، كما تغذي ندرة المياه التوترات بين الدول، وقد تستخدم المياه حتى كسلاح ، ففي سورية انتزع تنظيم داعش السيطرة على أحواض للنهرين الرئيسيين دجلة والفرات وربما تساهم حقيقة أن ما يقرب من نصف العرب يعتمدون على تدفقات المياه العذبة من دول غير عربية بما ذلك تركيا ودول منابع نهر النيل ، في إدراك خطورة تفاقم إنعدام الأمن المائي.
وتشكل معدلات الخصوبة المرتفعة جدا مصدراً آخر للضغوط ، فوفقا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة ربما يهبط متوسط معدل توافر المياه السنوي في العالم العربي الى 460 مترا مكعبا للفرد ، وهذا أقل من نصف عتبة الفقر المائي عند مستوى 1000 متر مكعب حيث تعتبر ان عتبة الفقر المائي هي 500 متر مكعب سنوياً للفرد الواحد أي ما معدله 1370 لترا للفرد يومياً في حين ان الواقع في الدول العربية الفقيرة مائيا قد ينخفض إلى عشر هذا الرقم، وفي هذا السيناريو يصبح استخراج المياه اقل استدامة مما هو عليه الآن بالفعل، مع استنزاف مخزونات محدودة بسرعة أكبر من أي وقت مضى، الوضع الذي قد يغذي المزيد من الاضطرابات.
أخيراً، تقدم دول عديدة إعانات دعم خاصة بالمياه ، ناهيك عن الوقود والمواد الغذائية في محاولة لشراء السلم الاجتماعي لكن مثل هذا الدعم قد يشجع الممارسات الفردية المسرفة ويقضي الى التعجيل باستنزاف الموارد والتدهور البيئي.
باختصار، أصبح العالم العربي حبيساً على نحو متزايد داخل حلقة مفرغة، إذ تؤدي الضغوط البيئية والديموغرافية والاقتصادية الى تفاقم ندرة المياه ، ويعمل ما ينتج عن ذلك من بطالة وإنعدام الأمن على تغذية التوترات الاجتماعية والاضطرابات السياسية والتطرف وتستجيب الحكومات بزيادة إعانات الدعم للمياه والتدخل بتحديد التعرفة للمستهلك وربطها بقرارات حكومية وعدم تحرير أسعارها وكذلك بفرض أسعار تشجيعية لمدخلات إنتاج المياه كالطاقه وذلك لتخفيض الكلف على المستهلكين وعدم تحميلهم المزيد من الكلف والتي تؤدي بالمحصلة الى انعدام الأمن وخلق المزيد من التوترات ويعمل ايضاً على تعميق التحديات البيئية التي تؤدي الى تفاقم الندرة والاضطرابات.
التحرك العاجل مطلوب الآن لكسر هذه الحلقة ، فبادئ ذي بدء ينبغي على الدول التخلص تدريجياً من المحاصيل ذات الاستخدام الكثيف للمياه، وأن تستورد الحبوب والبذور الزيتية ولحوم الأبقار من الدول الغنية بالمياه ، حيث يمكن إنتاجها بقدر أكبر من الكفاءة والاستدامة.
أما عن المحاصيل التي تستمر الدول العربية في إنتاجها ، فإن إدخال تكنولوجيات أكثر تقدماً والاستعانة بأفضل الممارسات من مختلف أنحاء العالم من الممكن أن يساعد في الحد من استخدام المياه ، ومن الممكن استخدام تكنولوجيات الأغشية والتقطير لتنقية المياه الفاسدة والملوثة وتكرير مياه الصرف الصحي، ومن الممكن ان يعمل الري بالتنقيط الذي يتسم بدرجة عالية من الكفاءة على تعزيز إنتاج الفاكهة والخضراوات في المنطقة دون استخدام مفرط للمياه. وان تكون هناك تشريعات تطبق بصرامة لمنع غير ذلك
تتمثل خطوة مهمة أخرى في توسيع وتعزيز البنية الأساسية للمياه لمعالجة اختلالات التوازن الموسمية في توافر المياه وتحسين كفاءة التوزيع وتجميع مياه المطر وبالتالي فتح مصدر إضافي للإمدادات.
كما يشكل تحسين إدارة المياه أهمية بالغة وتتلخص إحدى الطرق لتحقيق هذه الغاية في تسعير المياه بشكل أكثر تناسباً وهو من شأنه أن يخلق الحافز لمنع الهدر والحفاظ على الإمدادات، وفي حين لا يجب إلغاء إعانات الدعم بالكامل فلا بد ان يجري توجيهها نحو صغار المستهلكين و/او المزارعين الملتزمين او غيرهم من العاملين من ذوي الإحتياجات المرتفعة وإعادة تصميمها بحيث تعمل هي ايضا على توفير الحافز للحفاظ على المياه ورفع كفاءة استخدامها.
كما تتمثل سبل التحسين بتقليل الفاقد المائي بالمشاركة مع القطاع الخاص واستخدام الأساليب الحديثة وغير التقليدية مثل إدارة الضغوط بالشبكات ورفع سوية مواصفات المواد والتجهيزات المستخدمة واتمتة انظمة المياة لضمان الرقابة الصارمة ومقاومة الاستخدام غير المشروع.
لا شك أن الدول الأكثر ثراء مثل المملكة العربية السعودية وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة في وضع أفضل من الدول التي تمزقها الصراعات مثل اليمن وليبيا والعراق بما يسمح لها بمعالجة أزمة المياه المتزايدة الحدة التي تواجهها مستفيدة من توفر مصادر الطاقة واعتماد تجارب إدارة عالمية ناجحة دون تكييفها كما يجري في دول عربية اخرى، وعليه فأن كسر حلقة العنف وإنعدام الأمن يستلزم بالضرورة سبل تحسين إدارة المياه وحماية النظم الإيكولوجية البيئية وتقليل الفاقد المائي بشقيه الفيزيائي والتجاري مشمولا بمنع أو تقليل الاستخدام غير المشروع للمياه، وإلا فإن محنة نقص المياه جنباً الى جنب مع الإضطرابات الداخلية لن تزداد إلا سوءاً.
*خبير مياه