الأوضاع القاتمة التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية في الجزائر

Untitled-1
Untitled-1
سابينا هينبرج* - (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 9/4/2019 يبدو أن زوبعة الأحداث الاستثنائية التي تشهدها الجزائر تتسارع. ففي 5 نيسان (أبريل)، أفادت التقارير بأن السلطات الجزائرية أقالت رئيس المخابرات بشير طرطاق ونقلت وصاية مديريته من مكتب الرئيس إلى وزارة الدفاع -وهي علامة محتملة على أن القادة العسكريين يهدفون إلى السيطرة على أهم الأجهزة الأمنية وإلى درء التحركات القوية التي ربما تتخذها الجهات الفاعلة الأخرى. وفي غضون ذلك، أضاف المحتجون في المظاهرات الجماهيرية المستمرة نائبَ وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، إلى لائحتهم الطويلة من الشخصيات عتيقة الطراز التي يجب أن تنضم إلى الرئيس المستقيل حديثاً، عبد العزيز بوتفليقة، في مغادرة الساحة السياسية. وفي 9 نيسان (أبريل)، أفادت بعض التقارير أنه تم اتخاذ تدابير تشريعية من قبل مجلسي البرلمان لإقرار دور رئيس مجلس الأمّة عبد القادر بن صالح كرئيسٍ مؤقّت. على الرغم من الاعتراضات الشعبية على هذه الخطوة الأخيرة، تنازلت أقوى الشخصيات في البلاد استجالة لمطالب الحركة الاحتجاجية التي تفتقر إلى القيادة، والتي اجتاحت الشوارع للمرة الأولى في شباط (فبراير)، بينما لم يتنازل المحتجون عن أي شيءٍ في المقابل. ومع استمرار المواجهة، يتعيّن على الحكومة الأميركية أن تواصل الحث على اللاعنف والتطلع إلى المدى البعيد، مُدرِكةً أهمية إيجاد حلٍ بقيادة الجزائر للمشاكل التي كانت تختمر في البلد منذ سنوات، وليس شهوراً. تحديد سياق الاحتجاجات تجري حركة الاحتجاج المتصاعدة بسرعة على خلفية تغييرٍ تدريجي. ففي العام 2011، أطلقت الحكومة إصلاحاتٍ دستورية في استجابة لتظاهراتٍ اندلعت في الجزائر وأماكن أخرى من المنطقة. وأحرزت هذه الإصلاحات التي تم اعتمادها رسمياً في العام 2016 تقدماً ملحوظاً في بعض القضايا، مثل توسيع صلاحيات البرلمان ووضع حدود للولاية الرئاسية. غير أنها لم تصنع ما يكفي لتمكين المواطنين بشكلٍ مناسب. على سبيل المثال، على الرغم من سن قانون في العام 2012 ينص على تخصيص حصة للتمثيل النسائي على لوائح الأحزاب السياسية، فإن مفعول قانون الأسرة التقييدي إلى حد كبير ظلّ سارياً في الجزائر، مقللاً من شأن حقوق النساء على حساب حقوق الرجال في القضايا المتعلقة بالزواج والطلاق وحضانة الأطفال والميراث. أما بالنسبة لحدود الولاية الرئاسية، فإن توقّع الجولة الخامسة في الحكم للرئيس بوتفليقة الذي يبلغ من العمر اثنين وثمانين عاماً شكّل في النهاية الشرارة الأخيرة التي أشعلت حركة الاحتجاجات الجماهيرية الحالية. تشكّل التحديات الاقتصادية الحادة التي تواجهها الجزائر المحرك الآخر للاضطرابات القائمة منذ مدة. فقد كافحت البلاد لتخفيف اعتمادها الكبير على الغاز والنفط منذ الاستقلال. وآمن مؤسسو هويتها الوطنية بعد الاستعمار ومهندسو عملية تطوّرها الاقتصادي اللاحق بأن الطاقة الرخيصة ستساعد على بناء قطاع صناعي قوي وتحويل الجزائر إلى دولة حديثة، لا تعتمد على الموارد الخارجية. وبَنَت الدولة أيضاً إرثاً من التدخل المفرط في الاقتصاد، باستخدامها عائدات الهيدروكربون لتمويل منافع سخيّة مثل إعانات الأسعار وخلق فرص عمل كثيرة في القطاع العام. غير أن هذه السياسات فشلت في حماية قطاعات كبيرة من السكّان من الضعف الاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي أثار احتجاجات صغيرة النطاق في الشوارع طوال فترة رئاسة بوتفليقة؛ حتى أن المجتمعات في المناطق الغنية بالغاز والنفط في البلاد قاومت محاولات شركة الطاقة الوطنية "سوناطراك" وشركائها الدوليين (من بينهم الصين وروسيا) لاستغلال احتياطيات الغاز الصخري المحلّي، بدعوى أنها لم تستفد يوماً من احتياطيات النفط التي سبق استغلالها في هذه المناطق. وتشكّل هذه الأحداث نقطة تحوّل في المواقف الشعبية إزاء ما يشكّل تمكيناً اقتصاديّاً واجتماعيّاً. وهناك تغيير تدريجي آخر تمثل في تحسن التماسك الاجتماعي في الجزائر منذ تولّي بوتفليقة مقاليد السلطة للمرة الأولى. فقد لوحظ أن الاحتجاجات الأخيرة لم تستند كثيراً إلى تعبئة عناصر الهويات الوطنية الفرعية مثل البربر أو الطوارق أو غيرها، ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى السلوك التعاوني إلى حد كبير الذي أبدته أحزاب المعارضة السياسية. كما كانت النساء أكثر بروزاً في التظاهرات؛ حيث ساعدن على الحفاظ على الوحدة في حركةٍ ما تزال تفتقر إلى قائد معين. ويعزو بعض المحللين فضل هذا التطور إلى بوتفليقة، ذاكرين قدرته على تعزيز هوية جزائرية وإسلامية مشتركة. وأشار آخرون إلى استخدام الحكومة لخطابٍ يدور حول "التهديدات الخارجية" (مثل الحركات الإرهابية أو التدخل الغربي) من أجل تفادي الانقسامات الداخلية. ومهما يكن من أمر، فإنه يبدو أن الجزائريين وجدوا سبلاً لإسماع أصواتهم الحازمة بشكلٍ جماعي على الرغم من ركود الحكومة. دور الجيش وأجهزة الأمن على مر التاريخ، أدّت القوات العسكرية الجزائرية دوراً مركزيّاً في السياسة منذ أن شكّلت تحالفاً وثيقاً مع "جبهة التحرير الوطني" خلال الثورة قبل ستة عقود. ومع ذلك، تم تحدي موقفها بشكل دوري. وقد أدى قيام الدولة بإضفاء الطابع الاحترافي على الجيش بصورة مستمرة بعد انتهاء الحرب الأهلية في العام 2002 إلى إعادة التفاوض بشأن العلاقات المدنية-العسكرية، على غرار قيام بوتفليقة بإعادة هيكلة أجهزة المخابرات الحكومية القوية بعد العام 2015. وبالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من عدم استعداد السلطات المدنية تقليديّاً للانخراط في الشؤون العسكرية في الخارج أو إقامة شراكة مع الدول الغربية حول القضايا الأمنية، بدأت هذه السلطات بالدفع في اتجاه المزيد من هذا التعاون بعد أن هاجم إرهابيون مرتبطون بتنظيم القاعدة منشأة الغاز في إن أميناس في العام 2013. من الواضح اليوم أن الجيش ما يزال يرى نفسه كحامي الجزائر وضامن الحكومة المدنيّة، حتى لو تطلبت هذه المهمة الضغط على الرئيس للاستقالة، كما فعل قايد صالح مؤخراً وفقاً لبعض التقارير. ومع ذلك، يؤكد المتظاهرون بقوّةٍ أيضاً صوتهم الخاص في اختيار قيادة البلاد، ويرفض الكثيرون منهم الخطة الانتقالية التي اقترحها قايد صالح، بل وحتى استمرار وجوده في الحكومة. دَفَعَت هذه الصلاحيات المتضاربة بعض المراقبين إلى الإشارة إلى أنه لا يمكن تقديم خريطة طريق مقبولة إلا تحت حُكم قادةٍ يُرضون كلّاً من الشعب والجنرالات. وقد اقترح الجيش عدداً من القادة المحتملين، لكنّ المحتجّين رفضوا قبولهم جميعاً باعتبارهم يمثّلون النظام القديم بشكل كبير (على الأقل يتمتع بن صالح بدعم سلطة القانون لعملية ارتقائه لفترة مؤقّتة، لأن الدستور ينص على تسمية رئيس مجلس الأمة كرئيسٍ مؤقّت في هذه الحالات الانتقالية). كما طالبوا بإقالة رئيس المجلس الدستوري الطيّب بلعيز ورئيس الوزراء نور الدين بدوي (الذي تفتقر حكومته إلى الشرعية لأنه تم تعيينه في عهد بوتفليقة). قد يكون واقع عدم بروز أي شخصية تساعد الجانبين على تخطي هذا الطريق المسدود مرتبطاً بالهوية الوطنية الجزائرية المترسخة في مفاهيم القيادة الجماعية والإجماع. وبالمثل، افتقرت ثورة العام 1954 إلى زعيم واحد بلا منازع، مما يفسّر جزئيّاً الضعف التاريخي للرئاسة والدور السياسي البارز للقوات العسكرية. وتعطي هذه الميول أهمية لنداءات حركة الاحتجاج التي تدعو إلى تعيين فصيل محايد كحكومة انتقالية إلى أن يتم تنظيم الانتخابات. تداعيات أحداث الجزائر على السياسة الأميركية ما تزال قصص الهوية الوطنية التي تطورت منذ الثورة الجزائرية تؤدي دوراً قويّاً في إملاء مجريات الأحداث الراهنة. وتقوم هذه الهوية على مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ما -وهي الأسس التي استندت إليها الجزائر لمعارضة التدخل العسكري في ليبيا في العام 2011 ورفضها مراراً مساعدة "صندوق النقد الدولي" خلال التراجع الاقتصادي في الثمانينيات. وبالاقتران مع واقع أن الدعم الغربي في الماضي للتعددية السياسية ساعد على إطلاق العنان للحرب الأهلية، فإن مقاومة التدخل الأجنبي تعني أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين لا يملكون سوى نفوذٍ محدود على الأزمة الحالية في الجزائر. بدلاً من ذلك، على واشنطن دعم الجزائريين في بحثهم عن الإجماع الوطني حول كيفية تخطي حقبة بوتفليقة. وينبغي على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أيضاً الثناء على السلطات الجزائرية لضبط النفس الذي أظهرته تجاه المتظاهرين بالنظر إلى العواقب المدمّرة التي يمكن أن يسببها القمع القسري. وبالإضافة إلى ذلك، على المسؤولين أن يتذكروا أنّ للجيش الجزائري مصلحة مشتركة مع واشنطن في الحفاظ على علاقة قوية في مكافحة الإرهاب. ويجب على كلا الشريكين البحث عن سبلٍ للحفاظ على هذا التعاون حتى في وجه التحوّلات المؤسسية الكبرى. وأخيراً، على صانعي السياسات أن يضعوا في الاعتبار احتياجات الجزائر طويلة الأجل. وعلى كل من يتولى القيادة بعد بوتفليقة أن يتعامل مع الوضع الاقتصادي غير المستدام، والذي يشمل البطالة واسعة الانتشار بين الشباب والإنفاق العسكري المرتفع الذي يسهم في مفاقمة العجز في الميزانية. وفي هذا السياق، سيكون التمويل الأميركي لبرامج إصلاح التعليم والصحة موضع ترحيب خاصا ويحتمل أن يشكّل أفضل السبل للانخراط إذا حدث تغييرٌ شامل. *حائزة على زمالة ما بعد الدكتوراه في "كلية الدراسات الدولية المتقدمة" في "جامعة جونز هوبكنز"؛ حيث تقوم بالبحث والنشر في القضايا المتعلقة بالتحولات السياسية في شمال إفريقيا.اضافة اعلان