الأوطان لا تحرر بالعواطف

محمد الشواهين

أحيانا، أشعر بالغثيان خلال النقاش أو الحوار مع أشخاص يعتقدون أنهم "ختموا العلم"، ويفهمون في كل شيء، لاسيما السياسة. مع أن جُلّ هؤلاء لم يدخلوا الجامعات كمستوى تعليمي، رغم إدراكي أن ليس كل من دخل جامعة أو تخرج منها أصبح "فهلوي" عصره، ولا كل من لم يحالفه الحظ في إتمام تعليمه الجامعي، جاهل قليل معرفة. لكن بين هذا وذاك، نفهم أن للسياسة أربابها، وللزراعة أربابها، كما للصناعة... إلخ. فذوو الاختصاص في شأن معين نعتبرهم هم الأكثر فهما وإدراكا من أناس ليس لديهم العلم ولا الخبرة.اضافة اعلان
أقول هذا الكلام لكثرة ما يدور في الصالونات والتجمعات من حديث عن التحرير بأشكاله كافة؛ سواء ما يتعلق بتحرير الأرض المحتلة من الغاصبين الصهاينة، أو التحرر من قيود الظلم والاستبداد التي يمارسها بعض الحكام على شعوبهم المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية كباقي شعوب الدنيا.
ومن أهم القضايا العربية التي ما تزال تشغل حيزا في الجدل على الساحة من الخليج إلى المحيط، قضية فلسطين التي لا تحتاج إلى شرح أو توضيح. ومنذ العام 1948؛ عام "النكبة"، والحديث جار بلا انقطاع عن تحرير فلسطين، إلى أن جاءت الطامة الكبرى العام 1967، فتم احتلال ما تبقى منها، لتصبح فلسطين كلها تحت الاحتلال، وتزداد المسألة تعقيدا وصعوبة وهوانا.
إذا نظرنا إلى الشعوب العربية كافة، نجدها تطالب بتحرير فلسطين، وغالبية أفرادها مستعدون للتضحية في سبيل ذلك، لاسيما وأنها أرض الأنبياء، وفيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. فالعواطف متأججة نحو القدس، لاسيما مع ما يجري فيها بسبب اقتحامات المستوطنين الصهاينة للحرم القدسي، والذين يرغبون بل يخططون لإقامة هيكلهم المزعوم داخل باحات المسجد الأقصى الذي يطلقون عليه جبل الهيكل.
لو سألنا أي عربي، أينما كان عن القدس، لأبدى استعداده للقتال من أجلها. ولو سألته سؤالا آخر: بماذا سيقاتل؟ وكيف؟ ومن أين يبدأ وإلى أين سينتهي؟ فستدرك أنها عواطف الفزعة الصادقة الخالية من المضمون الواقعي المبني على التخطيط الاستراتيجي السليم. ولو عدنا إلى الوراء قليلا، فنتذكر ما قاله المرحوم وصفي التل عن ضرورة حشد جيش عربي موحد، مزود بالسلاح والتدريب الحديثين في إطار خطة عسكرية محكمة، هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين.
منذ شهر على وجه التقريب، بدأت هبة شعبية داخل القدس الشريف، احتجاجا على ممارسة قطعان المستوطنين، تحت حراسة الجنود والشرطة المدججين بالسلاح، باقتحامات شبه يومية للمسجد الأقصى وساحاته، مستفزين مشاعر المسلمين في الداخل والخارج. فتوالى سقوط الشهداء في المدن والقرى والمخيمات واحدا تلو الآخر، حتى تجاوزوا الستين شهيدا، بين ذكر وأنثى، من مختلف الأعمار، والحبل على الجرار.
في هذا السياق، عندما نقارن خسائر الفلسطينيين في الأنفس والممتلكات وكل مناحي الحياة، مع خسائر الإسرائيليين، لا نجد وجها للمقارنة. فالخسائر كلها في الجانب الفلسطيني، والنزر اليسير في الجانب الآخر. الفلسطينيون يلقون الحجارة، في حين أن المستوطنين والجيش والشرطة الإسرائيليين يردون بشكل مفرط بالرصاص الحي، ما أثار سخطي على تلك الأصوات التي تريد للشعب الفلسطيني أن يستمر على هذا النحو من النضال والكفاح، وكأن هذه الأصوات المتفرجة تقول للفلسطينيين: انتحروا شرفا ونضالا! يتساءل البعض، ومن حقه أن يسأل: أين الجيوش العربية التي كنا نعتبرها قوية ولها ثقلها؟ بكل بساطة، هي مشغولة بمشاكل بلادها الداخلية. فنصف الجيش السوري ما يزال بشار الأسد يستخدمه في قتل شعبه وتدميره وتشريده، والنصف الثاني يقاتل من أجل الحرية والكرامة بمعونات لا تسمن ولا تغني من جوع، والمؤامرات تُحاك له من كل جانب كونه الأقرب إلى فلسطين.
ولكوننا على هذه الحال، فإننا لا نملك سوى الحجر والعواطف، والتضرع الى الله سبحانه أن يبعث لهذه الأمة من يقودها إلى النصر والتحرير.