"الإخوان" بعد الليبراليين

قد يلمح المدقق في السياق الذي تجري فيه، هذه المرة، حوارات حركتي "فتح" و"حماس" الفلسطينيتين، سيناريو "نظام عربي جديد" محتمل أن ينشأ؛ يتم فيه التخلص من "الإخوان المسلمين" بعد أن كان هؤلاء سنداً في التخلص من اليسار العربي، ثم كانوا (بوعي أو من دون وعي) عوناً في قطع الطريق على الليبراليين العرب، الذين شاركوا بدورهم بقوة في التخلص من "الإخوان". والفائز في كل الأحوال، هو أنظمة الحكم الشمولي المحافظة، وذلك بعد التخلص من أنظمة الحكم الشمولي المتسربلة زوراً وبهتاناً بالتقدمية، والتي كانت في حقيقتها جمهوريات وراثية شمولية دموية.اضافة اعلان
عندما انفجرت الثورات العربية، العام 2011، تبنت الدول العربية التي لم يسمها "الربيع"، أحد موقفين. الأول، قام على مساندة الإخوان المسلمين، والإسلاميين عموماً، بمن فيهم السلفيون، وتمت مساعدة هؤلاء ضد الأنظمة العربية القديمة، ودعمهم لحسم المنافسات الانتخابية أو الحروب ضد الليبراليين والقوميين الناصريين. أما الموقف الثاني، فكان بأن أعلنت الدول التي تبنته حملة واضحة وعلنية ضد الإخوان المسلمين، ورفضت الليبراليين كُليّاً، كجزء من رفض التغيير. وطبعاً كل هذه الأنظمة ومعها دول أخرى، كانت في السبعينيات والثمانينيات، قد تحالفت مع الإخوان المسلمين ضد اليسار، لحين تلاشي هؤلاء أو تشرذمهم مع نهاية الراعي السوفيتي مطلع التسعينيات.
أمّا الليبراليون، فلا يوجد، ولم يوجد لهم حقيقة، تيار ليبرالي منظم. ولكن غالبية من قام بالثورات الشبابية في مصر وتونس وغيرهما من الدول، حمل نوعا من الليبرالية السياسية؛ أي الإيمان بالحرية السياسية، وآمن بحقوق الفرد في الكرامة والعمل، وتساوي الفرص، والدولة المدنية. وقد كانت اللحظة التي وعد فيها محمد مرسي، أثناء الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية في مصر، أن "نسبح معاً في تيار ليبرالي حقيقي به سلام وأمن اجتماعي"، ربما ذروة الإقرار بقوة الروح الليبرالية التي سادت حينها، قبل أن ينقلب مرسي على الليبراليين ويحالف العسكر في مصر، ويتعجل تعديلات وإقرارات دستورية، من دون حوار كافٍ مع الليبراليين وبقايا اليساريين، الذين انقلبوا ضده أيضاً، وتحالف كلاهما مع العسكر، الذين أقصوا الطرفين، بعد إغراء كل طرف بأنّه سيكون حليفه ضد الآخر.
في البداية، كابرت قطر -التي قادت أصحاب الموقف الأول من "الربيع" في رؤية الواقع الجديد، واستمرت في دعم "الإخوان" والإسلاميين. ولكن الآن، مع التغيرات في السعودية، بعد وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والتقارب الضمني، على الأقل، التركي-السعودي، خصوصاً بعد دخول روسيا إلى سورية (قبل خروجها)، تقاربت السياسات القطرية-السعودية-التركية-الإماراتية، ومعها طبعاً دول أخرى. والآن، هناك أنباء من أكثر من مصدر، عن مراجعة قناة "الجزيرة" لتركيبة كادرها الوظيفي. وبحسب صحيفة "رأي اليوم" الإلكترونية، فإنّ هذا في سياق "بنود الخطة القطرية لإعادة مراجعة موقفها بشأن الإخوان المسلمين؛ حيث أُعلن بأنه سيتم الاستغناء عن نحو 500 موظف"، عينوا سابقاً لأسباب سياسية وليست إعلامية.
إذا حدث سيناريو فك العلاقة القطرية مع "الإخوان"، يكون اليسار العربي قد انتهى منذ زمن بفضل تحالف "المحافظين مع الإخوان" من جهة، وبسبب الأداء الكارثي الدموي لهذا اليسار الحاكم في العراق وليبيا وسورية. ثم تَكون بشائر الليبرالية قد انتهت قبل أن تبدأ بالإثمار، بفضل الخلاف "الإخواني-الليبرالي"، خصوصاً في مصر، وتفضيل الطرفين للعسكر في صراعهما، وانقلاب هؤلاء ضد الطرفين.
إذا أرادت "حماس" تجنب الحرب على "الإخوان"، سيصبح عليها، أكثر من أي وقت سابق، أن تُعلي وطنيتها، وتقلل من أمميتها؛ أي أن تحد من "إخوانيتها"، خصوصاً العلاقات التنظيمية، وأن تقدم مواقفَ مطمئنة بشأن علاقتها مع إيران، فضلا عن أن تدرك أنّ هذا جزء من سياق إقليمي جديد، وأن لا شيء بمعزل عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
النظام العربي الجديد، إذا تحقق، وفقاً للسيناريو الوارد في هذا المقال، فإنّه يعني عودة الأنظمة البطريركية للسيطرة على كل شيء، مع غياب الدكتاتوريات المتسربلة باليسار التي وجدت منذ الخمسينيات، ومن دون قوى تغيير واضحة، سوى من الظروف المرتبطة بالتراجع الاقتصادي، وفشل التنمية المستدامة.