الإرهاب العالمي بحلة جديدة: الذئب المنفرد

د. سعود الشرفات

برز مفهوم "الذئب المنفرد" بقوة على سطح الأحداث، وكثر الحديث عنه في وسائل الإعلام العالمية، بعد الموجة الحديثة من العمليات الإرهابية التي ضربت في بيروت، وتفجير الطائرة الروسية في سيناء، وعملية قتل المتعاقدين الأمنيين في مركز تدريب الشرطة في الموقر بالأردن، ثم العمليات الإرهابية المتزامنة في باريس. مع الإشارة إلى أن ليس كل هذه العمليات الإرهابية ينطبق على منفذيها مفهوم "الذئب المنفرد".اضافة اعلان
ما المقصود بمفهوم "الذئب المنفرد" أو "المتوحد"؟ وهل هو ظاهرة جديدة، أم اتجاه حديث في ظاهرة الإرهاب العالمي؟
بداية، يجب التأكيد بأنني أعتقد أن هذا النوع من الإرهاب العالمي قد تجاوز مرحلة أن يبقى اتجاها فرعيا في ظاهرة الإرهاب العامة؛ بل أصبح ظاهرة قائمة بحد ذاتها. وقد جاء هذا المفهوم من سلوكيات جماعات الذئاب في مملكة الحيوان؛ إذ إن الذئب المنفرد يترك جماعة الذئاب وينأى بنفسه عنها، فيختار أن يعيش منفردا يفترس وحيدا. ويتميز هذا الذئب بالقوة والعنف والوحشية، أكثر من بقية الذئاب. ومن ثم، فقد دخل هذا المفهوم أدبيات التطرف والإرهاب، كما تشير الدراسات الغربية، من باب محاكاة الأفراد المتطرفين والإرهابيين لتصرف وسلوك هذا الذئب في مجالات تخطيط وتنفيذ الأعمال الإرهابية. وكنت أشرت مبكرا لخطورة هذا الاتجاه الحديث من الإرهاب، في كتابي الصادر العام 2011 بعنوان "العولمة والإرهاب: عالم مسطح أم أودية عميقة؟".
والتعريف الذي يتفق عليه معظم خبراء الإرهاب والتطرف، هو أن الذئب المنفرد: أي فرد يرتكب عملا إرهابيا بشكل منفرد تماما، بعيدا عن أي هيكلية أو أوامر قيادّية أو دعم مادي من أي جهة، وإن كان قد يتأثر ويحظى بدعم جماعة أو تنظيم أو حركة أو أيديولوجية ما. لكن المهم أنه مع كل ذلك، يتصرف ويخطط وينفذ منفردا.
ويعود أول استخدام لهذا المفهوم إلى العام 1990، إذ كان أول من استخدمه، الأميركي توماس لينتون ميتزيغر، زعيم الجماعة العنصرية المعروفة في أميركا باسم "تفوّق الأمة الآرية البيضاء"، وزميله ألكساندر جيمس كورتيس. وهي من جماعات النازية الجديدة، ولها ارتباطات مع جماعة "كو كلاكس كلان" المتطرفة، والتي تنادي أيضا بتفوق الجنس الآري، وتعادي السود واليهود والأقليات، كما تعارض الهجرة وترفض دفع الضرائب للحكومة المركزية.
وكان ميتزيغر يدعو مريديه إلى العمل كمحاربين بشكل فردي، وبسرية تامة، تجنبا لمراقبة الأجهزة الأمنية، ضد الأهداف الحكومية وغيرها. ولذلك، فقد وصف مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركي الأعمال التي نفذها أفراد من تلك الجماعة منذ بداية العام 1990 باسم "عمليات الذئب المنفرد"، خاصة تلك العمليات التي ارتبطت باسم ألكساندر كورتيس الذي تمت ملاحقته بشكل حثيث ومن دون هوادة من الحكومة الأميركية.
ويقول عدد من الباحثين والخبراء الغربيين المعاصرين إن هذه الظاهرة من الإرهاب أخذت زخمها في الحقبة الحالية من العولمة، بعد موجة التطرف والإرهاب الإسلامي خاصة في الغرب، وأن معظم هؤلاء الذئاب يعانون من العزلة الاجتماعية والإحباطات، ومن مشاكل نفسية مختلفة وصعوبات في الحياة، وقد تعرضوا لهشاشة نفسية جعلت منهم أهدافا سهلة للتجنيد والتطرف الديني الذي منحهم الخلاص والمخرج لإطلاق موجات العنف والتطرف والإرهاب لديهم.
لكن لا بد من التأكيد على أن هذه الظاهرة الجديدة لا ترتبط فقط بالدين الإسلامي وبالمتطرفين الإسلاميين؛ بل هي موجودة في مختلف الديانات والأيديولوجيات. والأمثلة عليها أكثر من أن تحصى. لكن تكفي الإشارة إلى أن أعنف عملية لذئب منفرد كانت للمتطرف القومّي النرويجي أندراس بريفيلك، والذي قتل 77 شخصا في أوسلو العام 2011.
وهناك ترابط كبير بين هذه الظاهرة وما يسمى في أدبيات الإرهاب الحديثة بـ"الإرهاب الناشئ محليا"، وهو الإرهاب الذي ينفذه أفراد يعيشون في أوروبا وأميركا، وقد ولدّوا وتربوا وتعلموا هناك، وبما يعتبر أهم وأخطر اتجاهات الإرهاب العالمي الحديث.
يقول كلنت واتس؛ الخبير في مكافحة الإرهاب، والزميل في معهد أبحاث السياسة الخارجية الأميركي، إن هذا الاتجاه من الإرهاب أخذ شكله الحالي بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ضد أميركا. وبأن أنور العولقي المولود في أميركا من أصل يمني، والمنتمي لتنظيم "القاعدة"، وتم اغتياله بهجمة طائرة بدون طيار في اليمن العام 2011، كان بما يتمتع به من قدرة على الخطابة والحديث باللغة الإنجليزية واستخدام الإنترنت، مثالا على حث ودفع الذئاب المنفردة على العمل في الغرب وأميركا. وقد ارتبط اسم العولقي لدى خبراء الإرهاب والأجهزة الاستخبارية بالعملية الإرهابية التي قام بها نضال مالك حسن، الرائد في الجيش الأميركي في قاعدة فورد هود تكساس العام 2009، وقتل فيها 13 شخصا، وجرح 32 آخرين.
لقد مكّنت سيرورة العولمة، وتسارع تطور تكنولوجيا الاتصال، مزيدا من التغيرات التي جعلت من نموذج العولقي في التطرف عن بعد قديما جدا؛ إذ هناك أشكال أكثر تطورا وفتكا، تجعل من رحلة الصيد من قبل "الذئب المنفرد" أكثر سهولة، وأكثر عنفا وتوحشا.
إن الخطورة التي تمثلها هذه الظاهرة تأتي من صعوبة التنبؤ بنوايا وتحركات وفعل "الذئب المنفرد"، ثم صعوبة المراقبة الدائمة وجمع الأدلة الجرمية التي تمكن من تقديمه للمحاكمة المدنية العادلة، خاصة في الدول الديمقراطية. وهذه حقيقة يعرفها كل خبراء الإرهاب والأجهزة الاستخبارية العالمية، مهما كانت محترفة ومدربة.

*مدير مركز شرفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب