الإسرائيليون والفلسطينيون: الحكاية التوراتية في مقابل الحقوق الطبيعية

الرواية التوراتية هي المرتكز الأيديولوجي الذي يعتنقه اليهود لاستعمار فلسطين - (أرشيفية)
الرواية التوراتية هي المرتكز الأيديولوجي الذي يعتنقه اليهود لاستعمار فلسطين - (أرشيفية)

حسن عفيف الحسن* – (ذا بالستاين كرونيكل) 28/11/2012
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

الصهيونية هي حركة المستوطنين الأوروبيين التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وقدمت رسالتها ومهمتها على أنها: العودة إلى "أرض يباب فارغة ما تزال تنتظرهم منذ آلاف السنين، حتى يجعلوها مزدهرة وصالحة للسكن". واليوم، يعكف المستوطنون اليهود في فلسطين على تعقب جذورهم كدولة-أمة في العصور القديمة كما وردت في الكتاب المقدس. وفي إسرائيل الاستعمارية الحديثة، يلعب علم الآثار دوراً مهماً في التأكيد على الروابط المزعومة بين المستعمرين الأوروبيين المتطفلين وبين "القبائل القديمة" التي عاشت في فلسطين قبل ألفي سنة. ويلعب ربط الماضي القديم بالحاضر السياسي دوراً حاسماً في أي ادعاء لإسرائيل بامتلاك الأرض، ويقوم فعلياً بإسكات أي محاولة لتقديم تاريخ الفلسطينيين الأصليين.اضافة اعلان
ويستند تاريخ "إسرائيل القديمة" على أسطورة السرد العبري التوراتي الذي لا يعدو كونه قصصاً يستحيل التحقق منها حول "الله والأنبياء"، و"شعب مختار" و'أرض ميعاد". وهو سرد يستخدم الخيال التاريخي للتعبير عن معتقدات أيديولوجية. فأي إله هو الذي يعطي لقبيلة واحدة رخصة لقتل وطرد السكان الأصليين من ديارهم، إلا إذا كان اسم هذا "الإله" هو آرثر جيمس بلفور؟ وعن ذلك يقول المؤرخ جيوفاني غاربيني  Giovanni Garbini إنه "من دون استخدام التوثيق الخارجي، فإن من المستحيل معرفة أين يكون السرد التوراتي سليماً".
لقد ركزت الدراسات التوراتية الإسرائيلية على اختراع "كيان إسرائيل القديم" في الوقت الذي تجاهلت فيه كل شيء آخر من تاريخ فلسطين الغني، لغاية تبرير وشرعنة طموحات إسرائيل الاستعمارية. وأصبح الموضوع الوحيد لدراسة الكتاب المقدس هو تاريخ "إسرائيل القديمة". وقال مناحيم بيغن في العام 1969: "إذا كانت هذه فلسطين وليست أرض إسرائيل، فإنكم تكونون غزاة وليس كادحين في الأرض". ويحاجج الخطاب الإسرائيلي التوراتي بأن "إسرائيل القديمة" ظهرت في فلسطين في مرحلة الانتقال المتأخرة من العصر البرونزي-الحديدي، وهي فترة يفترض أن إسرائيل حازت بها ملكية بعض المناطق في فلسطين، لكن تاريخ فلسطين يغطي ألفي عام قبل وألفي عام بعد "إسرائيل القديمة".
وحتى في الغرب، شكل تاريخ "إسرائيل القديمة" جزءاً كبيراً من التعليم في مدارس اللاهوت. ووفقاً لإدوارد سعيد، أعطيت لدراسات الكتاب المقدس في الغرب الوزن الكامل للسلطة، وأصبحت في نواح كثيرة امتداداً لخطاب الاستشراق الذي يصور الشرق الأوسط على أنه متخلف ثقافياً. وقد أنكرت تلك الدراسات زمن وواقع حضارة السكان الفلسطينيين الأصليين الذين كانوا يعيشون على الأرض واستأنسوا الحيوانات، وطوروا ثقافة متقدمة هناك، وتعاملوا وتاجروا مع الدول المجاورة قبل وبعد "إسرائيل القديمة". وكان آرثر جيمس بلفور، وزير الخارجية البريطاني وواضع وعد بلفور سيئ السمعة في العام 1917، مستشرقاً ينطوي على اعتقاد قوي بدونية الأمم غير الغربية. وكان يشير إلى "إسرائيل القديمة" بالتحديد عندما عرض فلسطين باعتبارها "الوطن الطبيعي للشعب اليهودي" في وعده المشؤوم.
وتظهر الأهمية السياسية البالغة لعلم الآثار في إسرائيل في اختيار موقع مسعدة لأداء اليمين في الحفل السنوي للجيش الإسرائيلي. ومسعدة هي جبل فلسطيني بعيد بالقرب من البحر الميت، حيث، وفقاً للدراسات اليهودية، "ارتكب بضع مئات من المتمردين اليهود المحاصرين عملية انتحار جماعي بدلاً من الاستسلام لقوات الإمبراطور الروماني". وقد طلب الشاعر القومي الإسرائيلي إسحق لاندمان، من اليهود اتخاذ قسم "أبداً لن تسقط مسعدة مرة أخرى" كرمز سياسي لحث المستوطنين اليهود على الدفاع عن إسرائيل الحديثة. وكتب ييغال يادين، عالم الآثار الذي استكشف جبل مسعدة: "إن مسعدة يمثل بالنسبة لنا جميعاً في إسرائيل رمزاً للشجاعة، ونُصباً لشخصياتنا الوطنية الكبرى، والأبطال الذين اختاروا الموت على حياة العبودية المادية والمعنوية. ونحن، أحفاد هؤلاء الأبطال، نقف هنا اليوم لنعيد بناء أنقاض شعبنا".
إذا كان الإسرائيليون يستعيدون حادثة مسعدة التي يُزعم أنها وقعت قبل أكثر من ألفي سنة مضت، ويحتاجون إلى علم الآثار لإثبات حدوثها، فإنه يجب على الفلسطينيين أن لا ينسوا مجازر معركة القسطل في نيسان (أبريل) ـ1948 والحروب الإسرائيلية على غزة في الأعوام 2008-9 و2012، والنكبة في 1947-48، مع وجود المشاركين وشهود العيان الأحياء لدعم صدقية وموثوقية الأحداث التي تكشفت عنها تلك الحروب. وخلافاً للمتمردين في مسعدة الذين يزعم أنهم ارتكبوا الانتحار بدلاً من الاستسلام للرومان، كان المقاتلون الفلسطينيون في القسطل يدافعون عن القرى من التطهير العرقي ضد الجيش اليهودي الأكبر بكثير والمسلح جيداً. وتحت قيادة عبدالقادر الحسيني، عرض المقاتلون بطولة كبرى قبل أن يقتلوا جميعاً، وبنادقهم في أيديهم. وقد أصبحت القسطل والمناطق المحيطة بها قرى وبلدات مطهرة عرقياً، وجزءاً من إسرائيل، منطقة القدس. وسكانها هم من بين لاجئي 1948 الذين طردوا من ديارهم أو فروا من فلسطين ما قبل قيام إسرائيل.
كما دافع المقاتلون الفلسطينيون في غزة المحاصرة عن المدينة والقطاع المحاصَرين ضد الجيش الأقوى في الشرق الأوسط. وكان قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون سحب جميع اليهود من غزة وسحب الجيش الاسرائيلي من قطاع غزة في العام 2005 قراراً عقلانياً. وكان ذلك اعترافاً من الزعيم الإسرائيلي الأكثر تشدداً بأن الاحتلال المادي لغزة كان مكلفاً للغاية بحيث لا يجب أن يستمر. وقد اكتشف الإسرائيليون أنه يمكن قصف الفلسطينيين وحصارهم وتجويعهم، لكنه لا يمكن إخضاعهم.
كان الهجوم الإسرائيلي على منطقة غزة المكتظة بالسكان في العام 2008-9  بالضربات الجوية والقصف البحري والمدفعية والصواريخ قد دمر المدينة، وقتل فيها أكثر من 1300 وأصاب أكثر من 10.000، معظمهم من المدنيين والأطفال. وقد أطلقت الدبابات الإسرائيلية وطائرات الهليكوبتر من طراز كوبرا صواريخ هيلفاير، لكن القوات البرية الإسرائيلية بقيت في الأطراف ولم تحاول الاستيلاء على المدينة أو مخيمات اللاجئين، لأن نتائج مثل هذا الغزو لن تكون نزهة قصية. وفي 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، قامت إسرائيل باغتيال أحمد الجعبري، قائد الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب عز الدين القسام، بواسطة صاروخ أطلق من طائرة بدون طيار.
وكان رد حماس العسكري هو الصواريخ التي أطلقتها على إسرائيل من قطاع غزة في تحد؛ وقد أطلقت إسرائيل حملة "عمود السحاب" التي اتخذت شكل حرب شاملة من القصف العشوائي والقصف ضد البنية التحتية ومنازل المدنيين في غزة. وتدعي إسرائيل بأن قواتها استهدفت أكثر من 1.500 من المواقع العسكرية في قطاع غزة، لكن ذلك لم يمنع المقاتلين الفلسطينيين من إطلاق الصواريخ نحو المدن والبلدات الإسرائيلية حتى تم الإعلان عن وقف لإطلاق النار.
مثل اللاجئين الفلسطينيين في كل مكان، أُجهِضت آمال لاجئي غزة في العودة إلى ديارهم بسبب إسرائيل والحكومات الغربية والقادة العرب والفلسطينيين غير الأكفاء. وللفلسطينيين الحق في الكفاح من أجل حقوقهم الطبيعية التي حرموا منها على مدى أجيال.
في يوم 5 تموز (يوليو) 1950، أقر البرلمان الإسرائيلي "قانون العودة" الذي يسمح لأي يهودي بأن يصبح مواطناً إسرائيلياً مباشرة عند دخوله إلى إسرائيل. وفي نفس الوقت، تنكر إسرائيل على اللاجئين الفلسطينيين حق العودة إلى منازلهم ومزارعهم وأعمالهم، وقد تم هدم معظم منازلهم على يد الإسرائيليين، وأعلنت بعض من منازلهم شاغرة وسُمح للمستوطنين اليهود بالانتقال إليها.
دائماً، يمكن بناء حجة قانونية قوية لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة. ففي أيلول (سبتمبر) 1948، أوصى الكونت برنادوت رسمياً "بحق اللاجئين العرب بالعودة إلى بيوتهم". وبعد انتهاء الحرب في العام 1948، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 194 الذي يؤكد على حق العودة "للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم". وفي كتابه "فلسطين وإسرائيل: تحد للعدالة"، كتب البروفيسور جون كويغلي: "إن أي حق بالعودة لا تدحضه حقيقة أن المنطقة التي هُجِّر منها شخصٌ ما قد تغيرت شخصيتها".
سواء وصفوا بأنهم مقاتلون من أجل الحرية أو إرهابيون، سيواصل الفلسطينيون ممارسة حقوقهم الطبيعية، ومحاربة الظلم والاضطهاد واغتصاب الأراضي على يد المستعمرين الإسرائيليين بكل الوسائل إلى أن تتحقق العدالة وفقاً للقوانين الدولية. وكان جون لوك، منظر الثورة الإنجليزية في العام 1688 والثورة الأميركية 1776 قد كتب في كتابه "المعالجة الثانية للحكومة": ".... (إذا) عاش الناس معاً بلا أي قواعد أخرى غير قوانين البهائم، التي يطبقها الأقوى، فهكذا يضعون أساس عدم الاستقرار الدائم، والأذى، والاضطرابات، والفتنة، والثورة".


*محلل سياسي. كتابه الأخير، هو "حل الدولتين: هل مات فعلياً؟" (دار ألغورا للنشر، نيويورك).
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان: Israelis and Palestinians: Biblical Fiction vs. Natural Rights